تزوير الحقيقة في زمن السوشيال ميديا

بقلم/ محمد بوخروبة
في ظل هشاشة الدولة وانقسام المجتمع، تحولت وسائل التواصل إلى مسرح للتضليل وتصفية الحسابات، حيث أصبحت الحقيقة أول ضحايا الصراع.
في زمن صار الكذب فيه متاحًا بضغطة زر، وتحولت المعلومة إلى سلعة تتداولها الأصابع قبل أن يزنها العقل، تصبح الحقيقة شيئًا هشًّا، معرضًا للتلاعب والتشويه والطمس. ولا تبدو ليبيا بمنأى عن هذه الحالة، بل لعلها أحد أبرز النماذج التي تمثل كيف يمكن لـلسوشيال ميديا أن تتحول من فضاء للتعبير إلى ساحة لمعركة شرسة تدار ضد الحقيقة، بأدوات جديدة ولغة مشبعة بالمغالطات والانفعالات.
في مجتمعات تعاني من ضعف في مؤسسات الدولة، وانقسام في الرؤية، وهشاشة في البنية الإعلامية، تصبح الحقيقة عبئًا لا يحتمله كثيرون، لا سيما أولئك الذين يقتاتون على الجهل والتضليل، الحقيقة ليست ترفًا يمارسه المفكرون، بل أساسًا لا غنى عنه لبناء الثقة، وصياغة المستقبل، ومعالجة جراح الماضي.
لكن حين يغيب العقل النقدي، وتستبدل الحجة بالشتيمة، ويتحول النقاش إلى تصفية حسابات سياسية أو مناطقية أو أيديولوجية، تصبح السوشيال ميديا ميدانًا فوضويًا لا تحكمه قيم ولا ضوابط، بل غرائز وانفعالات ومصالح.
لقد خلقت وسائل التواصل الاجتماعي وهمًا جميلًا في بداياتها، حين وصفت بأنها منابر للحرية، ومساحات للكلمة الصادقة. لكنها في الحالة الليبية، تحولت تدريجيًا إلى محرقة للوعي، ومرجل يغلي بالأكاذيب والشائعات ونظريات المؤامرة.
فبدل أن تكون مساحة لطرح الرؤى، وغربلة المعلومات، وتبادل الأفكار، أصبحت منصات للتشهير، والتخوين، والتلاعب بالوعي الجمعي، وأخطر ما في الأمر أن هذا لا يحدث دائمًا عن جهل، بل يتم بتخطيط واع ومدروس، تنفذه جهات تمتلك أجندات سياسية، أو مصالح اقتصادية، أو حتى نزعات انتقامية.
ليبيا، التي لا تزال تعيش حالة من التشظي السياسي والانقسام المجتمعي، لم تشف بعد من جراح الحروب، ولا من إرث السنين العجاف، وبدل أن تكون السوشيال ميديا جسرًا بين مكوناتها المختلفة، تحولت إلى خنادق تخاض فيها معارك خفية، بالكلمة المفبركة، والصورة المضللة، والمعلومة المسمومة.
صفحات مجهولة التمويل، حسابات وهمية، ومؤثرون يحترفون فن الخطابة الفارغة، يتصدرون المشهد، لا شيء يجمعهم سوى السعي إلى توجيه الرأي العام نحو سردية معينة، أو إغراقه في ضبابية كاملة تمنعه من التمييز بين الحق والباطل.
فمرة يقدَم الوطني على أنه عميل، ومرة يصور الداعون للمصالحة على أنهم خونة، ومرة يلصق التطرف بمن يخالف سردية السائد، هكذا يذبح الوطن على مذبح الأحقاد والانتماءات الضيقة، وتغتال الحقيقة أمام أعيننا، دون أن نملك حتى رفاهية الرفض.
الخطير في المشهد أن التضليل الإعلامي لم يعد مجرد عرض جانبي، أو نتاج عفوية مستخدمين، بل أصبح استراتيجية واضحة، تستخدم فيها التقنيات الحديثة لتوجيه الرأي العام، وبث الانقسام، وتزييف الوقائع، خاصة في لحظات مفصلية تمر بها البلاد.
ولأن الدولة الليبية لم تنجح حتى الآن في استعادة أدوات الرقابة أو بناء إعلام مهني حر، بقيت المنصات مفتوحة على مصراعيها أمام كل من يريد أن يصنع واقعًا موازيًا، يخاطب العواطف لا العقول، ويعبئ الجمهور ضد بعضه، باسم الثورة أو الدين أو الوطنية.
لعل أفضل توصيف لهذه الحالة ما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الحقيقة قوة تحرر، ليست الحقيقة ترفًا أخلاقيًا، بل فعل مقاومة، أن تقول الحقيقة في زمن الكذب هو موقف سياسي وأخلاقي، يحمل في طياته خطر المواجهة، لكنه أيضًا يحمل وعدًا بالنجاة، لأن الحقيقة، مهما حوصرت، ومهما تأخر ظهورها، تبقى هي الخيط الوحيد الذي يمكن أن يعيد للمجتمع وعيه، وللدولة بوصلتها.
إن المشهد الليبي الراهن يفرض علينا أن نعيد التفكير في مفهوم الأخلاق السياسية، الأخلاق التي لا تبرر الكذب باسم الانتصار، ولا تجمل الظلم تحت شعار الواقعية، ولا تقبل بتزييف الوعي كوسيلة لحماية السلطة.
والصدق، والاعتراف، والمساءلة، هي أركان ضرورية لبناء مجتمع صحي، وإذا أردنا الخروج من النفق المظلم، فعلينا أن نواجه أنفسنا أولًا.. كم من الأكاذيب رددناها دون تحقق؟ وكم من المواقف تبنيناها لمجرد أنها ترند؟ وكم مرة كنا أدوات في معركة لا نفهم دوافعها الحقيقية.
فالكذب، مهما كان متقنًا، لا يصنع وطنًا. لا يبني مؤسسات، ولا يؤسس لعدالة، ولا يضمن وحدة، بل هو أساس الخراب، ومدخل الفتنة، وبذرة الانهيار. ولذا فإن مسؤولية محاربة تزوير الحقائق، تبدأ من كل فرد، كل كاتب، كل ناشط، كل صحفي، وكل منصة.
ولعل أول خطوة في هذه المعركة، أن نعيد الاعتبار للحقيقة، لا باعتبارها رواية نختارها حسب الهوى، بل كواقع يجب احترامه، الحقيقة ليست دائمًا مريحة، لكنها ضرورية. لأنها، ببساطة، ما يجعلنا ننجو، ولو حوصرت ستجد طريقها في النهاية، ومسؤوليتنا كمواطنين وكتاب وإعلاميين، أن نفتح لها الطريق، ولا نزيد الطين بلة.