ملفات وتقارير

الذكرى الحادية عشرة لثورة الكرامة.. احتفال بالتحرير واستعراض للإنجازات

شهدت مدينة بنغازي في الخامس والعشرين من شهر مايو الماضي، احتفالًا مهيبًا بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لانطلاق ثورة الكرامة، والتي مثّلت في مايو 2014 نقطة تحول محورية في مسار الأزمة الليبية، حيث أطلقت شرارة مقاومة شعبية وعسكرية واسعة ضد الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة التي سيطرت على الشرق الليبي، وبشكل خاص مدينة بنغازي.

وقد جاء الاحتفال هذا العام ليكرّس واقعًا جديدًا فرضته الثورة على الأرض، واقع الدولة التي استعادت جزءًا كبيرًا من هيبتها بفضل تضحيات آلاف الشهداء والجرحى، وبفعل مسار طويل من المعارك والمؤسسات والانتصارات التي تراكمت على مدار أكثر من عقد.

مدينة بنغازي تحتفي بثورتها: عرس وطني واستعراض عسكري

احتضنت المدينة العسكرية بقمينس الواقعة جنوب مدينة بنغازي، العرض العسكري المركزي، الذي حضره القائد العام للقوات المسلحة العربية الليبية المشير خليفة حفتر، رفقة رئيسي مجلسي النواب والحكومة الليبية وعدد من كبار الضباط، بالإضافة إلى شخصيات سياسية وقضائية وقبلية ومدنية،كما حضر الاستعراض العسكري نائب وزير الدفاع الروسي يونس بيك إيكفوروف، ومسؤولون من بيلاروسيا، ومدير جهاز الاستخبارات العامة المصرية، ووفود من دول، بينها النيجر وتشاد، بالإضافة رؤساء بعثات دبلوماسية عربية وأجنبية.

جاء العرض بعد استعدادات استمرت لأسابيع، وتضمنت تمارين ميدانية لعشرات الوحدات العسكرية من مختلف التخصصات.

وألقى القائد العام كلمة أكد فيها أن “ثورة الكرامة لم تكن مجرد عملية عسكرية، بل كانت مشروعًا وطنيًا لإنقاذ الدولة من الانهيار، واستعادة السيادة، وبناء جيش موحد قوي قادر على حماية الشعب ومقدراته”. مشيدا بصمود الليبيين خلال السنوات الماضية، متعهدًا باستمرار العمل من أجل توحيد المؤسسات وحماية ليبيا من الأطماع الخارجية.

وتحدث عن دور الجيش في التصدي للتنظيمات المتطرفة، وقال: فقدنا الآلاف من أبناء جيشنا في حربنا على الإرهاب التي انتصرنا فيها نيابة عن العالم، وأشار إلى أن الهدف الأول والأخير للقيادة العامة، هو استعادة الدولة الليبية، وهيبتها، وتعزيز الأمن، والاستقرار، ونحن مع إرادة الشعب الليبي، ورهن إشارته.

وخاطب القائد العام القوات المشاركة في الاستعراض العسكري، وقال لهم: أنتم الدرع والسيف على الحدود للدفاع عن هذا الوطن؛ ونحن كلنا فداء لليبيا، وعزتها، ووحدة ترابها.

العرض العسكري أظهر حجم التطور النوعي في أداء القوات المسلحة، سواء على مستوى التنظيم أو المعدات. فقد شاركت فيه وحدات من القوات الخاصة، ووحدات المشاة، والمدفعية، وسلاح الجو، والبحرية، إضافة إلى وحدات الدعم الفني، وأجهزة الاستخبارات العسكرية.

كما تم استعراض طائرات مسيّرة وأنظمة دفاع جوي، ومدرعات حديثة.

الحضور الرسمي والشعبي وحدة وطنية تتجددالاحتفال شهد حضورًا لافتًا من مختلف مكونات الشعب الليبي.

فقد حضر ممثلون عن القبائل الليبية الكبرى، من برقة إلى فزان، في تعبير عن وحدة الصف الوطني .

كما شاركت وفود من أسر الشهداء والجرحى، حيث تم تكريم عدد من الأسماء الرمزية التي قدّمت تضحيات جسيمة في سبيل تحرير بنغازي ودرنة وسرت وأجدابيا.

وشهدت الاحتفالات فعاليات فنية وثقافية بالتزامن مع العرض العسكري، شملت أمسيات شعرية ومعارض صور ووثائق تؤرخ لمسيرة الكرامة منذ انطلاقتها. كما نظّمت بلدية بنغازي ماراثونًا رمزيًا للشباب والطلبة تحت شعار “نركض من أجل الكرامة”، عبّر عن روح التجديد والمصالحة والانطلاق نحو المستقبل.

ثورة الكرامة.. جذورها ومآلاتها

أُطلقت ثورة الكرامة في 16 مايو 2014 كرد فعل على تدهور الوضع الأمني في شرق ليبيا، بعد سلسلة من الاغتيالات طالت ضباط الجيش والشرطة، ونشطاء المجتمع المدني، والصحفيين، في ظل سيطرة تنظيمات إرهابية على مفاصل الحياة في بنغازي ودرنة.

وكان أبرز هذه التنظيمات “أنصار الشريعة” و”مجلس شورى ثوار بنغازي”، وهما جماعتان تدينان بالولاء لتنظيم القاعدة وداعش، وتتبعان نهجًا تكفيريًا دمويًا.

تحوّلت الكرامة إلى عملية تحرير شاملة خاضها الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر (آنذك)، وبدعم شعبي كبير، خصوصًا من شيوخ القبائل والنخب العسكرية.

ومع تصاعد العمليات، بدأ الجيش في استعادة الأحياء تباعًا، ونجح بعد أكثر من ثلاث سنوات من المعارك في تحرير كامل مدينة بنغازي في 5 يوليو 2017، ثم تبعتها درنة في 2018، وسرت لاحقًا.

إنجازات ثورة الكرامة

بعد 11 عامًااستعادة الأمن في المنطقة الشرقيةمن أبرز الإنجازات التي حققتها ثورة الكرامة دحر الجماعات الإرهابية التي كانت تهدد كيان الدولة، وتفكيك البنية التحتية لتنظيمات متطرفة، وضرب خلاياها النائمة، وتحرير بنغازي من سطوة السلاح غير الشرعي، في عملية تطهير شاملة.

كما امتد الاستقرار الأمني إلى مدن الجبل الأخضر، ودرنة، وطبرق، وأجدابيا وسرت وحتى الكفرة وكامل مدن الجنوب.

وساهم استتباب الأمن في عودة الحياة تدريجيًا إلى طبيعتها في المدارس، والجامعات، والمستشفيات، وفتح الطرق التجارية، وعودة عشرات آلاف الأسر النازحة إلى ديارها.بناء مؤسسة عسكرية وطنيةأعادت الثورة الاعتبار إلى الجيش الليبي الذي تم تهميشه بعد عام 2011، فقد تم تأسيس قيادة عامة موحدة، وفتحت الكليات والمعاهد العسكرية أبوابها وبالفعل تم تخريج دفعات جديدة من الضباط المؤهلين.

كما تم تطوير سلاح الجو والدفاع الجوي والبحرية، وإدخال أنظمة اتصال متقدمة، وتعزيز العمل الاستخباراتي.

وقد أصبح الجيش الوطني الليبي اليوم أحد أكبر الجيوش في شمال أفريقيا من حيث عدد الجنود والتنوع التسليحي، مع التزام واضح بحماية الوحدة الوطنية وسلامة الأراضي والأجواء والمياه الإقليمية الليبية.

تحقيق الاستقرار المؤسساتي في الشرق

تمكنت السلطات المحلية في بنغازي وشرق ليبيا من استعادة الحد الأدنى من أداء المؤسسات الإدارية، في ظل غياب الدولة المركزية في طرابلس.

وشهدت بلديات الشرق تطورًا نسبيًا في تقديم الخدمات، وتنفيذ مشاريع بنى تحتية بدعم من القيادة العامة.

كما أن مجلس النواب في طبرق عمل كسلطة تشريعية تحت حماية القوات المسلحة الليبية.التمكين الاجتماعي والمجتمعيبرز دور المجتمع المدني في شرق ليبيا بعد الكرامة، حيث ظهرت مئات الجمعيات التي تنشط في التوعية، والدعم النفسي لضحايا الحرب، وتأهيل الشباب.

وتم إنشاء مراكز ثقافية، ومعارض فنية تحيي الذاكرة الجماعية للثورة، في إطار سعي لإعادة بناء النسيج الاجتماعي، ومحاربة الفكر المتطرف.

توازن سياسي رغم الانقسام

رغم استمرار الانقسام السياسي بين الشرق والغرب، فإن ثورة الكرامة أسست لواقع توازن قوى جديد، منع انفراد جماعة الإخوان المسلمين أو المليشيات المسلحة بالقرار الليبي.

كما فرضت الثورة وجود الجيش الوطني على طاولة المفاوضات السياسية، مما جعل أي تسوية سياسية لا يمكن أن تتجاهل المؤسسة العسكرية أو تهمشها.

التحديات الراهنة

بعد 11 عامًاورغم هذه الإنجازات، فإن ثورة الكرامة لا تزال تواجه تحديات كبرى، في مقدمتها استمرار الانقسام السياسي، وغياب حكومة موحدة، وتأخر تنظيم الانتخابات، ما يعيق استكمال مشروع الدولة.

كما أن الاقتصاد الليبي يعاني من شلل مزمن، بسبب الصراع على الموارد، وسيطرة حكومة طرابلس على مقدرات الدولة، وانعدام الشفافية.

ويضاف إلى ذلك التدخل الخارجي، خاصة من قبل تركيا وقطر، اللتين تدعمان أطرافًا مناوئة للجيش الوطني، وهو ما يعقد جهود المصالحة الوطنية، ويزيد من تعقيد المشهد الليبي.

لكن قادة الكرامة يراهنون على وعي الليبيين، وتمسكهم بالدولة، وعلى دور القوات المسلحة في حماية الحدود، ومنع تمدد الإرهاب، وتثبيت الأمن.

الكرامة مشروع مستمر

في الذكرى الحادية عشرة لثورة الكرامة، لم يكن الاحتفال مجرّد حدث تقليدي، بل جاء بمثابة تأكيد جديد على أن الثورة لا تزال حيّة في وجدان الليبيين.

لقد مثّلت الكرامة في جوهرها تمردًا على الفوضى والتطرف، وسعيًا لبناء دولة حديثة، بجيش موحد، ومؤسسات فاعلة، وهو ما تحقق جزئيًا في الشرق الليبي.

ومع استمرار الحراك الوطني نحو المصالحة والاستقرار، فإن إنجازات الكرامة تشكّل حجر الأساس لأي مستقبل سياسي في ليبيا. إنها ليست فقط ذكرى، بل التزام وطني متجدد من أجل حماية الوطن، وتخليصه من التدخلات، ومن المليشيات، ومن الفساد.

وبينما تحتفل بنغازي في هذا اليوم بأبطالها، تظل أعين الليبيين على هدف واحد: ليبيا واحدة، مستقلة، آمنة، ينعم فيها كل مواطن بالحرية والكرامة.

زر الذهاب إلى الأعلى