قراءات في العولمة

المهدي الفهري
تفيد بعض الدراسات بأن كل الحركات الإنسانية عادة ما تعود وترجع لأسباب وجذور سابقة، وما يتكرر في هذه الفترة من محاولات لاجتياح بعض الدول ونهب ثرواتها والسيطرة على مواردها من قِبل الغرب هو ما يؤكد ذلك، وهو استمرار لنفس النهج والتوجه، وبما أننا نتحدث عن واقع يكرر نفسه وبالصورة النمطية المألوفة فلا بد لنا أن نستعرض أهم المتغيرات الدولية وآثارها على بلادنا والمنطقة، وهذا ما يدعونا لإعادة قراءة العولمة باعتبارها امتدادًا لصراع قديم جديد وانعكاسا لواقع محكوم بعوامل القوة والهيمنة والنفوذ ومتسلح بالعلم والمال وتكريس الجوانب المادية على حساب الجوانب الإنسانية، فمن الناحية التاريخية لا يمكن فصل الماضي عن الحاضر، ولا يمكن فهم جوهر العولمة دون تتبع واستقصاء تاريخها الذي عادة ما تترابط حلقاته وتتكرر أحداثه مع مرور الوقت من خلال عوامل وظروف متشابهة.
فكرة تطور العالم الثالث من خلال السيطرة عليه من طرف الدول الإمبريالية فكرة قديمة، نادى بها أكبر المفكرين والفلاسفة الغربيين من أمثال هيجل ونظريته الشوفينية المعروفة بالجدلية “الهيغلية” والقائمة على الأطروحة ونقيضها والتوافق بينهما، وكما أوضحها في كتابه تاريخ الفلسفة وما حازت عليه من تأييد مباشر وغير مباشر من كل من انجلز وماركس، والتي دعا فيها لغزو دول العالم الثالث من أجل تطور الحضارة، وهو أيضا من هلل ورحب باحتلال فرنسا للجزائر في سنة 1830، ولم يكتف بذلك، بل طالب بضم كل منطقة شمال أفريقيا للفضاء الأوروبي، وهذا دليل على عدم الدراية واليقين بجوهر ونمط وطبيعة شعوب العالم الثالث، وذلك من خلال الإيحاء بأن الأمم الغربية بلغت درجة متقدمة من الوعي، “وأن الإنسان المسيحي الأوروبي اكتسب حقيقة الإنسان الحر بينما لم يدرك الإنسان الشرقي هذه الحقيقة، ولأنهم لم يدركوا ذلك فهم ليسوا أحرارا”، ولعل هذه التفسيرات وغيرها هي التي شجعت على احتلال شعوب العالم الثالث ومحاولة تدمير قيمها المعنوية والثقافية والروحية التي يعتبرها البعض هي الحائل دون قدرتها على التطور وتعويضها بالقيم الغربية حتى تتمكن من تحقيق التقدم وجلب السعادة للإنسانية جمعاء، أو هكذا أُوهمت بقية الشعوب من طرف الدول الاستعمارية، إلا أن التاريخ أثبت فشل هذه الأفكار، وأن تعرض هذه الشعوب للاحتلال لم يزدها إلا انتكاسا وتخلفا، ناهيك عما فقدته من ثقافاتها ومقدراتها وتجميد تاريخها وقذفت بها في ذيل الأمم، وها هي بعض من هذه الأمم تنطلق من جديد نحو النمو والتألق بمعزل عن الغرب ونظرياته وعن قيمه وثقافاته وتتولى الريادة في الرقي والإبداع مع المحافظة التامة على قيمها وثقافتها وثوابتها الوطنية والقومية.
والمتتبع لطبيعة هذه التحولات الجيوسياسية والاستراتيجية العميقة وعلى انعكاساتها على عالمنا العربي وعلى غرار ما يجري اليوم في السودان الذي تتسع فيه ساحات المعارك وتتسع معها المعاناة والتي تنذر بحرب أهلية طويلة ومزيد من التمدد مستقبلًا في أفريقيا بكل أسف وما يشهده هذا البلد العربي الأفريقي من صراع أبعد من الصراع على السلطة، بل هو صراع إقليمي ودولي لتقسيمه ونهب ثرواته ونشر الفوضى في محيطه، وباستخدام نفس المعايير والرؤى ونفس الحجج والمبررات، وبما يمكن اختصاره بسلوك طريق الحضارة وإعلان الثورة الاجتماعية والذي يأتي كفصل آخر من فصول الخداع والتآمر التي تعودت عليها شعوبنا وأمتنا عبر تاريخها القديم والحديث من طرف من يضعون فيتو على أمنها واستقرارها ونهضتها، رغم ما تتعرض له الآن القطبية الأحادية من إفلاس وتصدع وتحول نحو الشرق ككتلة حضارية صاعدة في وجه المشروع الغربي!!