مقالات الرأي

الغذاء والصحة

بقلم/ د. علي المبروك أبوقرين

الصحة تبدأ من اللقمة والماء والهواء، فإذا تلوثت المنابع تدهورت الحياة، وانهارت أسس السلامة، واشتدّ المرض حتى استوطن الأجساد والبيوت والبلاد.

لم تعد الأمراض المعدية والمزمنة والمناعية والنادرة اليوم وليدة الوراثة وحدها، بل أصبحت ابنة بيئةٍ ملوّثة وغذاءٍ مغشوش وماءٍ غير آمن وهواءٍ مكدّس بالملوثات، إنها نتاج الفوضى الغذائية والبيئية التي اخترقت حياتنا اليومية من المزرعة إلى المائدة دون حسيبٍ ولا رقيب، ولقد أصبح التلوث الغذائي خطرًا صامتًا يهدد الأمن الصحي والغذائي في آنٍ واحد.

من الأسمدة الكيميائية والمبيدات السامة التي تتسرب إلى التربة والماء، إلى الريّ بمياهٍ ملوثة غير صالحة للشرب أو الاستعمال الآدمي، إلى التعديل الجيني غير المنضبط والتدخلات البيولوجية الخطيرة في طبيعة البذور والنباتات، ومن التخزين السيئ والتصنيع العشوائي والتداول بطرقٍ غير صحية، إلى اللحوم التي تُنتَج بطرقٍ مخالفة، حيث تُغذّى الحيوانات على هرموناتٍ ومضاداتٍ ومكوناتٍ ضارة تُنقل إلى الإنسان في كل وجبة.
المزارع السمكية والحيوانية الصناعية تحوّل بعضها إلى معامل تجريبية تنتج غذاءً سريع النمو مع غياب الضمير، وتُطعم الناس ما لا يعرفون مصدره ولا تركيبته، والأخطر من ذلك ما تشهده الصناعات الغذائية الحديثة من تجاوزاتٍ جسيمة: زيوتٌ مهدرجة، ولحومٌ مصنّعة، ومشروباتٌ غازية، ومُسكرات، وحلوياتٌ مُحمّلة بالسكريات والمواد الحافظة والمضافات الكيميائية التي تهلك الجسد ببطءٍ وتُدمنها الأجيال دون وعي.

لقد غابت سلطات الرقابة الصحية والاقتصادية والبيئية، وتاهت المسؤولية بين الوزارات، وتحوّلت الأسواق إلى ساحاتٍ مفتوحة لكل أنواع الغشّ الغذائي والتهريب والتداول العشوائي دون أيّ التزامٍ بمعايير الصحة العامة، وانتشرت أغذية الشوارع والمقاهي والمطاعم غير المرخّصة التي تقدم منتجاتٍ مجهولة المصدر بلا إشرافٍ ولا ضبط، في ظل غياب ثقافة المستهلك وضعف دور الرقابة والتفتيش الصحي.

إنّ ما يحدث ليس مجرد خللٍ في السلوكيات الغذائية، بل كارثة وطنية صامتة تُهدد الأمن الصحي والاجتماعي والاقتصادي معًا. لقد ساهم هذا التلوث الغذائي في انتشار الأمراض المزمنة والمناعية والمعدية والنادرة، وفي تزايد حالات التسمم الغذائي وضعف المناعة العامة وارتفاع معدلات السرطان والفشل الكلوي والكبدي، وتحول الغذاء من مصدرٍ للحياة إلى وسيلةٍ للموت البطيء.

وما لم تتدارك الدولة هذا الانهيار الصامت بإرادةٍ حازمة، وبمشروعٍ وطنيٍّ متكاملٍ لحماية الصحة والغذاء، فإنّ المستقبل سيكون أكثر قسوة. وينبغي أن تُطلق استراتيجية وطنية موحدة تجمع بين وزارات الصحة والبيئة والزراعة والاقتصاد والرقابة، وتعيد بناء منظومة السلامة الغذائية من البذرة والجذر إلى الثمرة، ومن الحقل إلى الطبق، وتفرض معايير الجودة والشفافية والمساءلة على الجميع. كما يجب أن يُفعّل دور البحث العلمي والرقابة المجتمعية والإعلام الصحي التوعوي لترسيخ ثقافة الغذاء الآمن، وفضح الممارسات الضارة، وتمكين المواطن من حماية نفسه وأسرته بعلمه ووعيه.

فالغذاء ليس سلعةً تُربَح فقط، بل أمانةٌ تُحفَظ بها الحياة، ومن يعبث بها يعبث بصحة الوطن كله.
لقد حان الوقت لأن يُعاد الاعتبار إلى المعنى النبيل للغذاء، وأن يكون مصدرًا للعافية لا للداء، وللحياة لا للهلاك.

إنّ الأمن الصحي يبدأ من المزرعة، والكرامة الوطنية تبدأ من اللقمة النظيفة، والغذاء الآمن ليس رفاهيةً، بل هو أول حقوق الإنسان في الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى