الرئيسية

مستشفى بني وليد… بارقة أمل في واقع صحي متعب

كتب علي رمضان

رحلة من الإحباط إلى الامتنان… تجربة مريضة ليبية تُعيد الثقة بالمستشفيات العامة

في زمنٍ تراجعت فيه ثقة المواطن الليبي بالمستشفيات العامة، وتحوّل العلاج إلى عبء مالي ونفسي يرهق العائلات، يبرز مستشفى بني وليد العام كنموذج مختلف، يعيد شيئًا من الأمل المفقود، ويؤكد أن الخدمة الصحية يمكن أن تكون إنسانية وفعّالة متى توفرت الإرادة والضمير المهني.

رحلة بحث طويلة عن علاج

لم تكن رحلة العلاج سهلة، بل كانت مليئة بالتعب والإحباط.
فبعد أشهر من التنقل بين مستشفيات العاصمة طرابلس ومصحاتها الخاصة، لم نكن نبحث فقط عن علاج طبي ناجح، بل عن معاملة كريمة تحفظ للمريض إنسانيته.
كثير من المستشفيات العامة في العاصمة تحوّلت إلى بيئة مليئة بالفوضى والارتباك؛
تدخل إلى الاستقبال فتجد المرضى في طوابير طويلة، والأطباء غائبين عن أماكن عملهم، والممرضات يفتقدن أحيانًا لأبسط مهارات التواصل، بل وللصبر الذي يتطلبه التعامل مع المرضى.

في إحدى المستشفيات العامة، وقفت ممرضة تصرخ في وجه مريض مسنّ لأنها لم تجد الوريد بسهولة.
وفي أخرى، انتظر المرضى ساعات طويلة من أجل “سحب دم” أو “إبرة مسكن”.
مشاهد مؤلمة تُظهر إلى أي حد فقدت منظومتنا الصحية أبسط معايير الرحمة والتنظيم.

المصحات الخاصة… رفاهية للأغنياء فقط

وحين ضاق بنا الحال في المستشفيات العامة، قصدنا المصحات الخاصة، علّنا نجد هناك العلاج المناسب.
لكننا اصطدمنا بواقع آخر لا يقل قسوة.
الاستقبال هناك أنيق، والكلمات ناعمة، لكن خلف المكاتب اللامعة تنتظرك فاتورة ثقيلة، تبدأ بعشرات الآلاف من الدنانير حتى قبل إجراء الفحوصات.
ولأن المال هو المعيار، لا يُنظر إلى حالة المريض بقدر ما يُسأل عن قدرته على الدفع.
وحين تصارح الطبيب بأن إمكانياتك محدودة وتطلب منه المساعدة في إجراء العملية داخل مستشفى عام، تتبدّل ملامحه فورًا، ويتحوّل الترحيب إلى برود، وربما استهزاء، كأنك ضيّعت وقته أو أهنته بطلبك.

التحول الكبير في بني وليد

بعد هذه التجارب القاسية، جاءت الفرصة لزيارة مستشفى بني وليد العام، وهناك فقط شعرنا أن الصورة يمكن أن تكون مختلفة.
منذ لحظة الوصول، كان الاستقبال منظمًا، والطاقم الطبي متعاونًا، والإجراءات تسير بسلاسة نادرة.
نظافة المكان لافتة، والنظام واضح في كل ركن.
حتى الوجوه المتعبة للعاملين تحمل ابتسامة حقيقية، لا مجاملة فيها ولا تكلف.

إدارة حاضرة وقيادة ميدانية

ما يميز مستشفى بني وليد عن غيره هو أن الإدارة ليست غائبة خلف الأبواب المغلقة.
مدير المستشفى يتنقّل بنفسه بين الأقسام، يراقب سير العمل، ويتابع التفاصيل الدقيقة — من تجهيز غرفة العمليات إلى وضع المرضى في الأقسام.
هذا الحضور الميداني اليومي خلق روحًا من الانضباط والمسؤولية بين العاملين، وولّد شعورًا عامًا بأن الجميع في موقع الرقابة والحرص.

لا غرابة إذًا أن ترى قسم العمليات يعمل بنظام متكامل يمتد من التاسعة صباحًا حتى ما بعد منتصف الليل، دون توقف أو تذمر.
كل فريق يعرف دوره، وكل حالة تُعامل بعناية تامة، وكأنها الحالة الوحيدة في المستشفى.

خدمة متكاملة دون عبء على المريض

في هذا المستشفى، لا يُرهق المريض بشراء الأدوية أو المستلزمات الطبية من الخارج.
كل ما يحتاجه متوفر داخل المستشفى، من الإبرة إلى الأجهزة الحديثة، وهذا في حد ذاته فرق جوهري عن بقية المستشفيات العامة، التي ترهق المواطن بطلبات متكررة من الصيدليات.
كما أن المريض يجد حوله طاقمًا مساعدًا متعاونًا في كل خطوة، لا يتعامل بفوقية ولا يتركه في حيرة، بل يقدم له التوجيه والإرشاد وكأنّه من عائلته.

منظومة تسير بالعطاء لا بالشكوى

ما يجري داخل مستشفى بني وليد هو أشبه بخلية نحل، لا تعرف الكسل.
من الأطباء إلى الممرضين والفنيين، الكل يعمل بروح جماعية، دون ضجيج أو تفاخر.
الجهد ظاهر على الوجوه، والتعب حاضر، لكن العزيمة أقوى، وكأنّ في داخل كل واحد منهم إيمانًا بأن ما يفعله ليس مجرد عمل، بل رسالة إنسانية.

ولعل أجمل ما في التجربة أن المريض لا يشعر بالتمييز أو الواسطة.
الجميع يُعامل بنفس الاحترام، سواء كان غنيًا أو بسيطًا، من المدينة أو من خارجها.
وهذا ما أعاد لنا الثقة في أن الخدمة العامة يمكن أن تكون عادلة، متوازنة، ومبنية على قيم أخلاقية لا على المصالح.

الفرق بين الفوضى والضمير

حين نقارن هذا النموذج بما يجري في مؤسسات أخرى، ندرك أن الفرق الحقيقي لا يكمن في الإمكانات، بل في الضمير المهني.
فالكثير من المستشفيات العامة تمتلك تجهيزات حديثة وموارد مالية، لكنها تفتقر إلى الإخلاص والانضباط.
أما في بني وليد، فالموارد محدودة، لكن هناك عقل منظم وقلب ينبض بالمسؤولية، ويد تعمل بصدق من أجل المريض.

رسالة إلى وزارة الصحة

تجربة مستشفى بني وليد تستحق أن تُدرّس وتُعمم.
فبدلًا من إنفاق الملايين على مشروعات شكلية أو لجان تفتيش موسمية، يجب على وزارة الصحة أن تنقل هذه التجربة إلى بقية المدن.
ليس المطلوب معجزات، بل فقط نظام، ومتابعة، ومساءلة، وإدارة ميدانية تراقب وتدعم وتقدّر جهود العاملين.

خاتمة: الأمل من رحم المعاناة

من تجربة شخصية مؤلمة خرجنا بدرس جميل:
أن في هذا الوطن، رغم كل الإهمال والفساد، ما زال هناك أناس يعملون بضمير حي، ويؤمنون بأن الطب قبل أن يكون مهنة، هو إنسانية.
مستشفى بني وليد اليوم يمثل بصيص أمل في واقع صحي مثقل بالمشاكل، ورسالة بأن الإصلاح ممكن متى تحركت النية الصادقة، وأن “ملائكة الرحمة” ما زالوا موجودين بيننا، فقط يحتاجون بيئة تحترمهم وتقدّر ما يقدمونه

زر الذهاب إلى الأعلى