نحن العرب، متى نقف أمام المرآة؟!

بقلم/ عبدالمجيد قاسم
الموقف العربي تجاه مأساة غزة يطرح سؤالًا يتطلبه التاريخ على أقل اعتبار، وهو هل ما نراه من خذلان على الصعيد العربي هو نتيجة عجز أم غياب للإرادة؟
سؤالٌ يبدو بسيطًا في صياغته، لكنه مهم، إذ يعري واقعًا عربيًا لا يحتاج إلى كثير من التحليل بقدر ما يحتاج إلى قليلٍ من الصدق مع النفس.
العرب لم يحاصروا إسرائيل لا برًّا ولا بحرًا ولا جوًّا، كما فعلت بعض الدول في أزماتٍ أقلّ شأنًا، ولم يقطعوا العلاقات الدبلوماسية كما فعلت دولٌ بعيدة عن القضية آلاف الكيلومترات؛ لم يُسحب السفراء، ولم تُغلق السفارات، ولم يُعلّق التعاون التجاري أو العسكري، ولم يُستدعَ التاريخ الطويل من الوعود القومية التي كانت تتغنى بفلسطين من المحيط إلى الخليج.
بل إنّ المدهش ـ والمخجل في آنٍ ـ أن نرى دولًا أوروبية تشهد تظاهراتٍ حاشدة تضغط على حكوماتها لكسر الحصار، بينما تلتزم العواصم العربية صمتًا يشبه التواطؤ.
حتى بعض الرياضيين في أوروبا وأمريكا اللاتينية رفضوا المشاركة في بطولاتٍ أو خلعوا قمصانهم تضامنًا، في حين لم يُهدّد العرب ـ ولو رمزًا ـ بالانسحاب من أيّ فعاليةٍ دولية؛ كأنّ الضمير العربي قد أصابه شللٌ إرادي، لا حسيّ.
فهل هو الخوف، أم الحسابات السياسية، أم ذلك المرض المزمن الذي جعل النظام العربي يتحرك فقط حين تتقاطع مصالحه الداخلية مع الحدث الخارجي؟
الجواب، في الحقيقة، مزيجٌ من ذلك كله، فالعجز العربي ليس في الإمكانات، بل في القرار؛ ليس في السلاح، بل في استعماله، وليس في الجغرافيا، بل في الإرادة التي تآكلت بين مؤتمرات القمم وبيانات الإدانة.
ما يوجع أكثر أن بعض الأنظمة العربية تتحدث عن “ضبط النفس”، و”الحكمة” و”الواقعية السياسية”، وكأنّ الدفاع عن المظلوم ضربٌ من عدم الواقعية، والشعوب العربية، فهي بدورها محاصرةٌ بين الإعلام الرسمي الذي يهوّن من الفاجعة، وبين واقعٍ اقتصادي ضاغط يجعلها تلهث وراء لقمة العيش أكثر مما تلهث وراء الموقف، لذا، فقد غاب الصوت الشعبي الحقيقي، وغاب معه الضغط الشعبي الذي كان يومًا أهم داعمٍ لقضية فلسطين.
قد يقول قائل: وماذا نستفيد من التظاهرات والانسحابات؟ أليست هذه مجرد رموز؟ والجواب: نعم، هي رموز، لكنها رموزٌ تصنع الوعي، وتوجّه الرأي العام، وتُحرج العدو أمام العالم.
إنّ السياسة في جوهرها لعبة الرموز والمواقف، ومن يستهن بها لا يدرك أن الشعوب تُقاس بمواقفها الرمزية قبل المادية.
فحين تقطع دولة صغيرة علاقاتها بإسرائيل، أو تمنع طائرة من عبور مجالها، أو تغلق ميناءها في وجه السفن المتجهة إليها، فإنها لا تغيّر المعادلة العسكرية، لكنها تغيّر المزاج العالمي، وتُشعل في النفوس شعورًا بأنّ هناك من لا يزال يقاوم.
وما يزيد الطين بلّة أنّ بعض الدول العربية تذهب إلى التطبيع الكامل في لحظةٍ تاريخيةٍ كان المفترض أن تُراجع فيها تلك السياسات، لا أن توسّعها! وكأنّ المجزرة لم تكن كافية لتذكيرهم بأنّ العدو لا يفهم إلا لغة القوة، ولا يحترم إلا من يرفض الانحناء.
وفي المقابل، لا يمكن إنكار أن في بعض الشعوب العربية وميضًا من الوعي، فالتضامن الفردي، والرفض الشعبي عبر وسائل التواصل، والمبادرات الخيرية، كلها تعبيراتٌ صادقة عن أن القلب العربي لم يمت تمامًا، لكنه قلبٌ بلا ذراع، يصرخ ولا يستطيع الفعل، لأن القرار في يد أنظمةٍ تخاف من ظلالها، وترى في كل حركةٍ شعبيةٍ خطرًا على توازنها الداخلي أكثر مما تراه فرصةً لاستعادة الكرامة.
إن من المؤلم أن نكتشف بعد كل حربٍ على غزة أننا لم نعد بحاجةٍ إلى مؤتمراتٍ طارئة، بل إلى ضميرٍ طارئ، لم نعد بحاجةٍ إلى شجبٍ واستنكار، بل إلى وقفةٍ صادقة أمام المرآة: ماذا فعلنا نحن؟ لا ماذا فعل الآخرون.
لقد أثبتت التجارب أن الشعوب لا تُهزم إلا حين تصمت، وأنّ الاحتلال لا ينتصر إلا حين يُقنعنا بأننا عاجزون، وما بين العجز والغياب خيطٌ رفيع اسمه الإرادة، فإذا انقطع، ضاعت البوصلة.
فلتكن هذه الحرب مرآةً لا لعدوّنا فحسب، بل لأنفسنا أيضًا، فربما ندرك يومًا أن السؤال الحقيقي ليس: هل نحن عاجزون؟ بل: هل ما زالت لدينا إرادة لنكفّ عن العجز؟