مقالات الرأي

مضحكات حزينة.. حين يصبح التقسيم الطائفي والجهوي دستورًا وتصبح “واعتصموا بحبل الله” مجرد آية تتلى

بقلم/ أحمد البرشة

في بداية التسعينيات شهدت ألمانيا سقوط الشيوعية وانضمام عشرين مليون ألماني شرقي في ليلة واحدة لحوالي ستين مليون ألماني غربي، منهم نحو 1.5 مليون من أصول تركية، لم يعدل الدستور الألماني ليعطي كوتة في الانتخابات للوافدين الجدد، كما أنه لم ولن يكتب فيه أن اللغة التركية هي إحدى اللغات الرسمية في ألمانيا، بل ينص الدستور الألماني على ضمان الحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين، بغض النظر عن أصلهم، وتشمل المواد في القانون الأساسي المساواة أمام القانون، حرية التعبير، وحق المشاركة في العمليات السياسية.

انتهت حرب البوسنة والهرسك عام 1995 باتفاق دايتون طبعا برعاية أمريكية وتم توزيع السلطات بين الإثنيات الثلاث وهي البوشناق (المسلمين)، الكروات (الكاثوليك)، والصرب (الأرثوذكس).

تتكون الرئاسة من ثلاثة أعضاء، كل منهم يمثل واحدة من المجموعات العرقية الرئيسية، يتناوبون على رئاسة المجلس كل ثمانية أشهر، وتشكل حكومة بالتوافق بين هذه المكونات، وكذلك مجلس النواب.

أما مجلس الشعوب (مجلس الشيوخ) فيتكون من 15 عضوًا، 5 من كل مجموعة عرقية (البوشناق، الكروات، والصرب). يتم انتخاب هؤلاء الأعضاء بشكل غير مباشر من قبل برلمانات الكيانين.

وحجتهم في ذلك أن هذا النظام المعقد مصمم للحفاظ على السلام والاستقرار في بلد متنوع عرقيًا، وضمان أن يكون لجميع المجموعات رأي في حكم البلاد، في لعبة تشبه لعبة الكراسي الموسيقية.

سيكون الأمر مضحكًا ودعوة لتقسيم البيت البيض إلى غرف طائفية، لو طالبنا بتطبيق نفس المبدأ في الولايات المتحدة الأمريكية وتجعل نظام الحكم فيها بثلاثة رؤوس الرئيس كاثوليكي ورئيس الحكومة بروتستانتي ورئيس مجلس النواب من الهنود الحمر وربما نضيف رأسا رابعة لمجلس الشيوخ يكون من اللاتينيين.

مضحك في أمريكا، ولكنه واقع في لبنان، يتم توزيع السلطات في لبنان بين الطوائف الرئيسية (كبوفيه طائفي) عبر نظام سياسي يعرف باسم “التوافقية الطائفية”، الذي تأسس وفقًا للميثاق الوطني لعام 1943 وتم التأكيد عليه في اتفاق الطائف لعام 1989. هذا النظام يضمن تمثيلًا متوازنًا للطوائف الدينية الرئيسية الثلاث: المسيحيين الموارنة (رئيس الجمهورية كي لا يحزن البابا!)، المسلمين السُّنة (رئيس الحكومة ترضيةً للخلافة العثمانية المفقودة)، والمسلمين الشيعة (رئيس البرلمان). وهكذا، يُحكم لبنان بـثلاثية مقدسة، كأنها آلهةٌ قديمة: واحد للبكاء على الماضي، وثانٍ للصراخ في الحاضر، وثالثٌ للتلويح بالمستقبل كشماعةٍ فارغة!

أما في العراق ثلاثية الخلاف فـ”بدل” توحيد الصف هناك أيضا رؤوس ثلاثة وهي رئيس الجمهورية ويجب أن يكون كرديًا. رئيس الوزراء ويجب أن يكون شيعيًا، يتم تعيينه من قبل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ويجب أن يكون سنيًا. وكأن الدستور كُتب بقلمٍ من ذهبٍ طائفي. شخصيًا اسميها “ثلاثية إيقاظ الفتنة”.

وفي فرنسا بلد الحريات واحترام الأقليات ويشهد على ذلك الجزائريون الذين ألقوا في نهر السين عام 1961 (بالمناسبة قام الوفد الجزائري المشارك في الألعاب الأولمبية 2024 بإلقاء الورود في نهر السين ما عكر جو احتفالات (الافتتاح)لا يمكن مجرد التفكير بتوزيع السلطات بحيث تكون حصة الأفارقة رئاسة البرلمان مثلا (رغم أنهم يسيطرون على الفريق الوطني لكرة القدم ومدينة مرسيليا وأينما يممت وجهك في باريس).

حتى بلجيكا التي عمليا ثلاثة شعوب مختلفة في كل شيء من اللغة إلى الدين تضم ثلاثة مجتمعات لغوية رئيسية، المجتمع الفلمنكي يمثل الناطقين باللغة الهولندية، المجتمع الفرنسي يمثل الناطقين بالفرنسية، المجتمع الألماني يمثل الناطقين بالألمانية، فإن دستورها لا ينص إلا أنه في حالة الرئيس يكون من إحدى هذه القوميات المختلفة تماما فإن نائب الرئيس يجب أن يكون من قومية أخرى فقط ودون تحديد وكذلك الأمر في سويسرا.

في ليبيا يطرح دائمًا موضوع الهوية الوطنية وكأنه طرح برئ، وبمجرد النقاش ينسى كل المتحدثين (أن لا تفرقوا) ينسى الجميع (أن اعتصموا بحبل الله) ويريد كل طرف حصته في كعكة الحكم ولغته كلغة رسمية للدولة.

في أوروبا والدول المتقدمة (كما يقول الممثل في فيلم اللعب مع الكبار)، الكل يتغنى بالتنوع… لكنه تنوعٌ للعرض فقط، كـطبق فاكهة يُقدَّم للزوار، بينما الجوعى ينتظرون خارج القاعة، ليقدم لهم هذا الطبق.

كان البولنديون يتندرون على الشرطة بهذا السؤال: هل تعرف لماذا كل شرطي لابد أن يرافقه كلب بوليسي؟

الإجابة: لأن رأسين يفكران خير من رأس واحدة. فما بالك بثلاثة رؤوس (رئيس الدولة ورئيس حكومة ورئيس برلمان).

اعلموا يرحمكم الله، أن الطائفية والجهوية هي أنظمة تضمن أن يبقى الجميع أعداءً… حتى لو جلسوا على طاولةٍ واحدة.

زر الذهاب إلى الأعلى