مقالات الرأي

صحوة الضمير العالمي مع فلسطين

بقلم/ محمد بوخروبة

في منعطف تاريخي حاسم، وعلى وقع مجازر متواصلة ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، يشهد العالم اليوم حالة تضامن غير مسبوقة مع القضية الفلسطينية، لم يكن هذا التضامن وليد لحظة أو نتاج موقف عابر، بل هو نتيجة تراكمات تاريخية من الظلم والاضطهاد، انفجرت مشاعرها اليوم في كل بقاع الأرض، حيث لم تعد الأكاذيب قادرة على التستر على جرائم الاحتلال، ولم يعد بمقدور المظلومية المتاجر بها أن تحجب المظلومية الحقيقية.

لقد كشفت الأحداث الدامية في غزة عن زيف الرواية الصهيونية، وأسقطت ورقة التوت عن السياسات الإسرائيلية التي طالما ارتكزت على الادعاء بأنها ضحية دائمة، فيما هي تمارس أبشع صور الاحتلال والتطهير العرقي ضد شعب أعزل، يذبح جوعًا وقصفًا وتهجيرًا.

منذ نكبة عام 1948، لم تحظ القضية الفلسطينية بهذا الزخم العالمي الذي نشهده اليوم، ملايين البشر من مختلف الديانات والانتماءات والأيديولوجيات خرجوا في مظاهرات غاضبة في أمريكا وأوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، يرفعون الصوت ضد العدوان، ويطالبون بإنهاء الاحتلال، وتجلى هذا الزخم التضامني من خلال مسيرات كبرى، ومواقف شجاعة لبرلمانات، وفنانين، وأكاديميين، وطلاب جامعات، وحتى شركات ومؤسسات عالمية قررت مقاطعة إسرائيل، أو وقف تعاملاتها معها.

ويعد هذا التحول مؤشرًا مهمًا على بداية انهيار الجدار الإعلامي والدبلوماسي الذي ظل يحمي إسرائيل لعقود، فلم تعد التهمة الجاهزة بـمعاداة السامية قادرة على إسكات أصوات الأحرار، بل باتت محل تندر واستهجان أمام مشاهد الدمار والجثث المتناثرة لأطفال غزة، وأمام شهادات الصحفيين والناشطين الذين يغامرون بحياتهم لنقل الحقيقة.

في خضم هذا التحول الدولي، جاء الموقف الأمريكي بقيادة دونالد ترامب، في منعطف بدا مفاجئًا للكثيرين، ترامب الذي لطالما اتهم بالانحياز الأعمى لإسرائيل، أعلن عن مبادرة غير مسبوقة، طالب فيها بوقف فوري للعدوان على غزة، والإفراج عن الأسرى من الجانبين، وتحدث عن سلام دائم في المنطقة، مؤكدًا أن الأمر لا يتعلق فقط بغزة، بل بمستقبل الشرق الأوسط بأسره.

ورغم الشكوك التي تحيط بمواقف ترامب وتاريخه السياسي، فإن تحركه هذه المرة جاء نتيجة ضغوط داخلية وخارجية، بعد أن أدرك حجم الضرر الذي ألحقه موقفه المنحاز بسمعة بلاده، فقد خرج مئات الآلاف في شوارع الولايات المتحدة، ينددون بالدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، ويطالبون بوقف المساعدات العسكرية والضغط الجاد لإنهاء العدوان.

في المقابل، أظهرت حركة المقاومة الإسلامية حماس قدرًا كبيرًا من المرونة السياسية والوعي الوطني، من خلال إعلانها موافقة مشروطة ومدروسة على مبادرة ترامب، حيث أبدت استعدادها للإفراج عن أسرى الاحتلال مقابل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وأعلنت موافقتها على تسليم إدارة قطاع غزة لهيئة تكنوقراط مستقلة، وفق توافق وطني وبدعم عربي وإسلامي.

إن هذا الموقف من حماس يؤكد أن الحركة لا تتمسك بالسلطة، بل تتعاطى مع المسؤولية الوطنية بجدية، وتقدم مصلحة الشعب الفلسطيني على المكاسب الفئوية أو الحزبية، وهي بذلك تضع الكرة في ملعب المجتمع الدولي، وتحرج الاحتلال الذي واصل عدوانه رغم المبادرات والدعوات للتهدئة.

لكن، ورغم هذا الحراك، فإن حكومة الاحتلال -برئاسة بنيامين نتنياهو- اختارت طريق التصعيد، رافضة التوقف عن ارتكاب المجازر، ضاربة عرض الحائط بالمبادرات والوساطات، ففي اليوم الذي أعلنت فيه مبادرة ترامب، استشهد أكثر من مئة فلسطيني، فيما تواصلت حملات التدمير والقتل بلا هوادة، وهذا الإصرار الإسرائيلي يكشف عن نوايا مبيتة لتفريغ القطاع من سكانه، وتحقيق أهداف صهيونية تتجاوز مجرد الرد على صواريخ المقاومة.

ومع ذلك، فإن صمود أهل غزة، وصوت الضمير العالمي الذي بدأ يعلو من كل زاوية في هذا الكوكب، يعيد الأمل إلى النفوس، فقد نجحت أساطيل الحرية، التي ضمت مشاركين من أكثر من أربعين دولة، من بينهم برلمانيون وفنانون وكتاب وأطباء، في كسر الحصار الإعلامي والسياسي المفروض على غزة، وواجه هؤلاء المتضامنون قسوة الاحتلال، واعتداءاته الوحشية، لكنهم بعثوا رسالة واضحة، أن الضمير العالمي لا يزال حيًا، وأن دعم الفلسطينيين ليس فقط موقفًا سياسيًا، بل واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا.

وفي ظل هذه التحولات، لم يعد ممكنًا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لقد أحرجت الأنظمة، وتعرت الروايات الزائفة، وبرزت حقيقة الاحتلال كجريمة مستمرة ضد الإنسانية، كما أن التغيير بات ممكنًا، ليس فقط على مستوى الوعي العالمي، بل أيضًا على صعيد موازين القوى التي تتحرك ببطء، ولكن بثبات نحو إعادة الاعتبار للحقوق الفلسطينية المشروعة.

إن الشعب الفلسطيني، بصموده الأسطوري، وبتضحياته المتواصلة، استطاع أن يعيد قضيته إلى الواجهة، وأن يسقط جدران الصمت والتواطؤ، وأن يثبت مرة أخرى أن إرادة الحرية لا تقهر، وأن الاحتلال مهما طال زائل لا محالة.

ويبقى السؤال: هل سيترجم هذا التضامن العالمي إلى خطوات سياسية وقانونية ملموسة؟ وهل ستنجح القوى الدولية الصادقة في وقف الحرب وتحقيق السلام العادل؟ الجواب رهن بإرادة الشعوب، وبمدى قدرتها على مواصلة الضغط، حتى تنتصر القيم التي تجمع الإنسانية على الظلم الذي يفرقها.

زر الذهاب إلى الأعلى