الصحة العامة الهدف الأسمى والتحديات المعاصرة

بقلم/ علي المبروك أبوقرين
إن الصحة العامة تمثل الغاية الكبرى التي ينبغي أن تسعى الأنظمة الصحية إلى تحقيقها، فهي أساس الحياة الكريمة وركيزة التنمية المستدامة. وللأسف العالم المعاصر يعيش في مواجهة تحديات صحية متجددة ومتفاقمة، إذ نشهد عودة أمراض كان يُظن أنها هُزمت منذ عقود، إلى جانب أمراض مستجدة وأوبئة متكررة وجوائح تهدد الأمن الصحي العالمي. وتتشابك هذه التهديدات مع أزمات اجتماعية واقتصادية ونزاعات مسلحة وصراعات سياسية، إضافة إلى انعكاسات التغيرات البيئية والمناخية، وزيادة حركة السفر والنزوح والهجرة، ما يجعل أي أزمة صحية محلية ذات أبعاد إقليمية ودولية، ولا تقتصر التحديات على المرض وحده، بل تمتد إلى التحولات العميقة في أنماط الحياة والسلوكيات الصحية، فقد باتت الأمية الصحية عائقًا خطيرًا أمام حماية الأفراد والمجتمعات، حيث يفتقر كثير من الناس إلى المعرفة الكافية حول الوقاية، والتغذية الصحية السليمة، وضرورة ممارسة الرياضة أو أي نشاط بدني، وأهمية الفحص المبكر، وزاد الطين بلة أن الإعلام والدعايات التجارية أضحت تضخ رسائل مدمرة للصحة في ثوبٍ جذاب، من خلال الإعلانات والبرامج التي تروّج لأنماط استهلاكية ومعيشية ضارة، وتشجع على التدخين، والترغيب والإفراط في الوجبات السريعة، والخمول واستهلاك منتجات تضر بالصحة الجسدية والنفسية، وهكذا تتحول أدوات يفترض أن تكون للتثقيف والتنوير إلى قنوات لبث السموم الفكرية والسلوكية.
أما ليبيا فهي تعيش في قلب هذه المعادلة المعقدة، فقد عانت لعقود من انتشار الأوبئة والأمراض المعدية التي أثرت على التنمية البشرية ونجحت في فترة ما في تجاوزها، وحققت مؤشرات عالمية في الصحة العامة، ولكن تعاني اليوم من عدم الاستقرار والنزاعات الداخلية التي أضعفت بنية النظام الصحي، وأدت إلى نزوح واسع وهجرات غير شرعية تتضاعف، زادت من هشاشة المجتمع. كما أن تدني الخدمات الصحية ونقص الكفاءات الطبية والصحية أدى إلى فجوة كبيرة بين الاحتياجات الفعلية وقدرات الاستجابة، وإن مواجهة هذه التحديات تستدعي رؤية إستراتيجية صحية شاملة، لا تقتصر على العلاج وتوفير الدواء، بل تمتد لتشمل تعزيز الوقاية عبر برامج تثقيف صحي مجتمعي واسع، وبناء نظم إنذار مبكر ورصد فعال للأمراض والأوبئة، وتطوير قدرات الاستجابة للطوارئ الصحية والبيئية، وإعادة النظر في التشريعات التي تنظم الإعلانات والدعاية بما يحمي المستهلك من التلاعب الصحي، والاستثمار في التعليم الصحي والإعلام الواعي الذي يرفع منسوب الوعي وينشر أنماط الحياة الصحية السليمة، واستقطاب الكفاءات الطبية وتطوير الموارد البشرية الوطنية، وبهذا يمكن أن تتحول ليبيا من ساحة هشاشة صحيةإلى نموذج إقليمي في بناء نظام صحي وطني شامل، يعيد الاعتبار للإنسان، ويجعل من الصحة العامة الهدف الأسمى الذي يحمي المجتمع ويضمن له مقومات العيش الكريم.
إن بناء نظام صحي وطني قوي في ليبيا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر دمج السياسات الصحية في جميع القطاعات التنموية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، باعتبار أن الصحة قضية شمولية تتجاوز حدود المستشفيات والمراكز الصحيةوالعيادات، كما أن توحيد النظام الصحي يمثل ضرورة قصوى لتجاوز حالة التشرذم ووقف تعدد الأجسام الموازية التي لم تجلب إلا المزيد من التفتيت وإضعاف القدرات وإهدار الأموال، وإن الصحة العامة ليست ترفًا، بل هي قضية وجودية وجوهرية للدولة والمجتمع، وبدونها لا يمكن بناء اقتصاد قوي ولا تنمية بشرية حقيقية، ومن هنا فإن الأولوية يجب أن تُمنح للتعليم والتدريب الصحي والطبي وفق رؤية علمية صارمة، مغايرة تمامًا لما نشهده اليوم من فوضى وعبث وتجارة أفرغت المؤسسات التعليمية الطبية من رسالتها، ونؤكد أن الصحة ليست سلعة تباع وتشترى، والتعليم ليس مجالًا للتجارة، وإنما كلاهما حق إنساني أصيل وركيزة لبقاء المجتمعات وصمود الدول، وإذا ما وضعت ليبيا هذه المبادئ نصب أعينها، فإنها ستتمكن من الانتقال من واقع الهشاشة والتشتت إلى بناء منظومة صحية وطنية موحدة، قادرة على حماية المواطنين وتحصين الوطن في وجه كل الأزمات، من لا يملك صحة جيدة، وتعليما راسخافلن يملك التنمية ولن يكون له المستقبل المنشود بين الأمم.