مقالات الرأي

المأساة التي أنعشت القضية.. قراءة في فلسفة السابع من أكتوبر

بقلم/ عثمان الدعيكي

في خضم الدمار الشامل الذي لحق بقطاع غزة، والضحايا الذين تجاوز عددهم السبعين ألف شهيد ومئة ألف جريح، وتحت أنقاض مدينةٍ دُمّرت بالكامل على مساحة أربعين كيلومترًا مربعًا، تبرز أسئلة مصيرية عن جدوى المقاومة وثمن المواجهة.

لطالما تساءل كثيرون عن تفكير قادة المقاومة قبل تنفيذ عملية السابع من أكتوبر؟ هل كان مشروعهم مشروع انتحار لغزة بأكملها؟

الحقيقة التي يدركها المقاومون أن ما جرى كان انتحارًا استراتيجيًا محسوب العواقب، مبنيًا على وعيٍ تراكميٍّ وإدراكٍ عميقٍ بأن القضية لن تُحل عبر الصفقات المشبوهة أو في ردهات مكاتب الأمم المتحدة، ولا من خلال الاستجداء في المحافل الدولية.

لقد كان ما حدث تجسيدًا لوعيٍ جمعيٍّ لشعبٍ عاش قرابة عشرين عامًا من الحصار، المميت يتنفس الإهانة، ويأكل الموت، ويتربى على شعورٍ وجوديٍّ بالاختناق. ناهيك عما يزيد على خمسين عامًا من المجازر والاضطهاد والتهجير، إنه الوعي الذي بلغ لحظةَ الانفجار، حتى وصل إلى لحظةالإدراك أن لا خنوع بعد اليوم مهما كانت النتائج.

ولذلك لم يكن السابع من أكتوبر انتفاضةً مسلحةً فحسب، بل كان صرخةَ وجودٍ في وجه الفناء.

أدرك قادة المقاومة أن القبول باستمرار “الأزمة” هو قبولٌ ضمنيٌّ بواقع الاحتلال، وأن الحفاظ على “الوضع القائم” ليس سوى تمديدٍ للمأساة إلى أجلٍ غير مسمّى.

لم يكن قرارهم انعكاسًا لانفصالٍ عن الواقع، بل لأن الارتباط بالواقع ذاته أصبح مرضًا مزمنًا. لقد كان السابع من أكتوبر لحظةَ انفجارٍ تاريخيٍّ لليأس، حين بلغ الخضوع أقصاه، فتحوّل إلى صيحةٍ مدوّيةٍ في وجه الظلم.

والغريب أن المتخاذلين في هذه الأمة يلقون باللوم كله على المقاوم، ويحملونه مسؤولية ما حدث من دمارٍ في القطاع والأرواح البريئة التي أزهقتها آلة الحرب الصهيونية، ويتساءلون: لماذا فعل ذلك؟ ألم يتوقع حجم الرد؟

وكأن غزة قبل السابع من أكتوبر كانت تعيش النعيمٍ المقيم!

إنهم لا يدركون أن الفدائي قد درس جميع السيناريوهات ويعلم أكثر مما يعلمون، واختار أن يجعل من تلك اللحظة بوابة “كشفٍ كبرى”، لا على المستوى العسكري فحسب، بل الأخلاقي والإنساني أيضًا.

لقد أراد أن يُجبر العدو، بغطرسته ووحشيته، على نزع القناع الذي خدع به العالم طوال عقود.وكما أدرك المجاهد الجزائري أن الاستعمار الفرنسي لن يتورع عن إبادة الجزائريين، ومع ذلك استمر في المقاومة ودفع أكثر من مليون شهيد ثمنًا لمواقفه، وكما واصل عمر المختار القتال وهو يعلم أن الاحتلال الإيطالي لن يتردد في إفناء الليبيين قتلًا وجوعًا، سارالمقاوم الفلسطيني على الدرب ذاته، لأنه على يقين أن الحياة لا تُوهب، بل تُنتزع.

لقد كانت المواجهة هي الخيارلا لتحقيق نصر عسكري، بل لدفع العدو إلى تدمير نفسه أخلاقيًا.وهذا ما يحدث اليوم، فالكيان لم يهزم غزة، بل غرق فيها حتى النخاع.

لقد سقطت صورته، ولم يعد “واحة للديمقراطية” في شرقٍ متخلف، بل بات رمزًا للاستعمار والتطهير العرقي، ومثالًا على سقوط الأخلاق حين تتفوق القوة.

صحيح أن العدو ربح المعركة بالسلاح، لكنه خسرها أخلاقيًا، وهذه الخسارة أخطر.فالهزيمة الأخلاقية تسبق دائمًا الهزيمة السياسية.فسقوط أمريكا في فيتنام بدأ بسقوطها الأخلاقي رغم تفوقها العسكري، ودولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا انهارت أخلاقيًا قبل أن تنهار سياسيًا.

اليوم، وبعد أن انقشع الغبار جزئيًا، يمكن القول إن شعب غزة دفع ثمنًا باهظًا، لكنه أنعش القضية وأعادها إلى الواجهة.

أصبح نضال الفلسطينيين رمزًا لكفاح البشرية من أجل الحرية، والعالم اليوم يشهد تظاهراتٍ ضد وحشية الكيان العنصري، بعد أن نُزعت عنه شرعيته الأخلاقية التي اكتسبها زورًا طوال العقود الماضية.

تظاهرات عمّت العواصم، ووصلت إلى قاعات البرلمانات، ودفعت دولًا كثيرة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بعد أن كُشف الوجه البشع للكيان أمام العالم أجمع.

إن المقاومة الإسلامية في فلسطين لم تدخل معركة خاسرة رغم علمها بفداحة الثمن، بل أطلقت الرصاصة الأولى على قلب كذبةٍ عمرها خمسة وسبعون عامًا — الرصاصة التي قد لا تُسقط جسد العدو اليوم، لكنها بدأت في تدمير روحه التي قامت على مظلومية كاذبة.

غزة دُمّرت، لكنها لم تندثر. بل أصبحت اليوم أكثر حضورًا من أي وقتٍ مضى: أرض الشهداء الذين أيقظوا الضمائر، وأرض الصرخة التي زعزعت “الجيش الذي لا يُقهر”، وأرض الرفض التي لفظت العدوان رغم المآسي.

هذه هي المعادلة الصعبة التي فهمها المقاومون: أحيانًا تكون الدماء هي الوسيلة الوحيدة لإيقاظ الضمير العالمي من سباته.

فلسطين لن تموت، وقضيتها لن تُطوى، ما دام فيها شعبٌ عازم على الصمود، ومؤمنٌ بأن الحرية لا تُستجدى.. بل تُنتزع انتزاعًا.

زر الذهاب إلى الأعلى