مشروع المحافظات في ليبيا: خطوة ملغومة قبل أوانها

بقلم/ فرج الشقار
لا شك أن الحديث عن مشروع المحافظات في ليبيا يثير الكثير من الجدل، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد. فالموضوع في ظاهره قد يبدو تنظيمًا إداريًا بحتًا، يهدف إلى تقريب الخدمات وتوزيع السلطات بشكل أكثر عدلًا، لكنه في باطنه يحمل أبعادًا سياسية عميقة، قد لا تكون بريئة أو بعيدة عن حسابات داخلية وخارجية معقدة.
قبل الخوض في أي مشروع من هذا النوع، لا بد أن نطرح سؤالًا جوهريًا: هل قامت الدولة الليبية فعلًا حتى نبدأ في تقسيمها إداريًا؟ الحقيقة أن الدولة لم تُبنَ بعد، فما زلنا أمام انقسام سياسي حاد، وحكومتين تتنازعان الشرعية، ودستور غائب لم ير النور، وإعلان دستوري مؤقت أرهق الليبيين وكبّل حياتهم السياسية منذ أكثر من عقد. أي حديث عن إعادة رسم خريطة البلاد إداريًا في ظل هذا الوضع، لا يعدو أن يكون قفزًا في المجهول، بل وربما انتحارًا سياسيًا يفتح أبواب صراعات جديدة لا أحد يعرف كيف ستنتهي.
إن مشروع المحافظات في توقيته الحالي لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياق السياسي، فتنفيذه قبل الانتخابات وقبل الاتفاق على شكل الدولة ونظام الحكم والدستور، سيؤدي حتمًا إلى تعميق الانقسام والتشظي، بدل أن يسهم في لمّ الشمل. وربما، وهذا ما يثير الريبة، أن وراء هذه الخطوة أيادي خفية، وأجهزة استخبارات أجنبية، تسعى إلى إدامة حالة الفوضى وضمان بقاء ليبيا ساحة صراع لا تنتهي. ويجب ألا نغفل هنا عن الأصوات الانفصالية التي ترى في مثل هذه المشاريع فرصة ذهبية لدفع البلاد نحو التقسيم تحت غطاء قانوني أو إداري.
إن التجربة أثبتت أن أي خطوة تتعلق بإعادة رسم النظام الإداري أو السياسي في ليبيا، قبل التوصل إلى قاعدة وطنية جامعة، لا تؤدي إلا إلى مزيد من الأزمات. فبدلًا من أن يكون مشروع المحافظات أداة للتنمية المحلية، سيتحول إلى معركة جديدة بين المدن والمناطق، وإلى شرارة لصراعات على النفوذ والثروات. وقد يدفع ثمن هذه المغامرة الشعب الليبي بأسره، لا مدينة واحدة أو إقليم بعينه.
من هنا، تبدو الأولويات واضحة: ما نحتاجه اليوم ليس محافظات جديدة، بل مؤتمرا وطنيا جامعا يضم كل الأطياف السياسية والاجتماعية، يتم فيه الاتفاق على الثوابت الوطنية التي لا يجوز تجاوزها. بعد ذلك، يجب أن يتوجه الليبيون نحو صياغة دستور حقيقي عبر استفتاء شعبي نزيه، يُحدد شكل الدولة ونظام الحكم بشكل واضح، ثم تأتي الانتخابات لتفرز سلطة شرعية قادرة على تنفيذ مشاريع وطنية كبرى، سواء أكانت محافظات أم أقاليم أم أي صيغة أخرى.
لا نقول إن فكرة المحافظات مرفوضة بالمطلق، فقد تكون في المستقبل خيارًا مناسبًا لتنظيم الدولة وتوزيع التنمية والسلطة بشكل عادل، لكننا نؤكد أن التوقيت قاتل. إن طرح مثل هذه المشاريع الآن لا يختلف عن تقديم هدية مجانية للقوى الانفصالية، وفتح الباب على مصراعيه أمام مخططات الخارج لتفتيت البلاد.
وعليه، فإن الموقف الوطني السليم ليس السكوت أو التغاضي، بل رفض هذا المشروع في توقيته الحالي، ومقاومة محاولات فرضه قبل استكمال بناء الدولة. نحن نبارك لكل اجتهاد ونسعى إلى التطوير، لكننا نرفض أن يكون ذلك على حساب وحدة ليبيا أو على حساب دماء أبنائها الذين ضحوا لعقود في سبيل بقاء الوطن موحدًا. في النهاية، لا يمكن لأي مشروع إصلاحي أن ينجح ما لم يكن نابعًا من إرادة وطنية جامعة، مبنية على دستور متفق عليه، ودولة قوية قادرة على تنفيذه. أما أن نبدأ بالمحافظات قبل الدولة، فهذا ليس إصلاحًا إداريًا، بل مشروعًا لتقسيم ليبيا بأدوات ناعمة، يجب أن يُقرأ بعين الشك والحذر.