ليبيا والاقتصاد المأزوم

بقلم/ محمد بوخروبة
في قلب جغرافيا غنية بالثروات، وتاريخ يزخر بالتحولات، تقف ليبيا اليوم على أنقاض اقتصاد ممزق، تحكمه قوى الظل وتعبث بمقدراته شبكات النفوذ، وسط صراع لا يرحم بين أطراف متناحرة تسعى إلى اقتسام الغنائم بدل إنقاذ الدولة، لم تعد الأزمة الاقتصادية مجرد أرقام تتلاشى في نشرات الأخبار أو مؤشرات مالية ترصد في تقارير دولية، بل غدت معاناة يومية تنخر حياة المواطن، وتعمق الفجوة بين طبقة مستفيدة من الفوضى وطبقات مسحوقة تقاتل من أجل البقاء.
منذ سنوات، يعيش الاقتصاد الليبي حالة من التشظي المزمن، نتيجة مباشرة لانقسام المؤسسات السيادية، وتضارب السياسات النقدية والمالية بين سلطتين متوازيتين، كل تدعي الشرعية، وكل تتصرف كما لو أنها المالك الحصري لثروات الليبيين.
القطاع المصرفي يعيش شللًا شبه كامل، والسوق الرسمية للعملة الأجنبية شبه مجمدة، فيما تنشط السوق السوداء كوحش مفترس يلتهم القيم الشرائية، ويجعل من الدينار الليبي مجرد ورق بلا قيمة، هذا التوحش المالي، الذي يتغذى على غياب الرقابة، أنتج طبقة جديدة من المليونيرات الطارئين، صعدت على ظهر معاناة الناس، مستفيدة من شبكة فساد متغلغلة، ومن تبييض أموال متزايد، ومن تجارة اعتمادات مستندية مشبوهة لا علاقة لها بالتنمية أو الاستيراد المشروع.
أزمة السيولة النقدية في ليبيا لم تعد ظرفًا طارئًا، بل تحولت إلى واقع مستقر يعكس حجم الانهيار المالي والإداري، فمن غير المعقول في بلد نفطي، أن يقف المواطن لساعات، بل لأيام أحيانًا، أمام أبواب المصارف على أمل الحصول على بضع مئات من الدينارات من راتبه الشهري، هذه المهانة اليومية تعكس هشاشة البنية المصرفية، وغياب العدالة في توزيع النقد، حيث تتوافر الأموال لفئات معينة، بينما يترك المواطن العادي يتسول ما يملكه في الأصل، المصارف أصبحت أدوات تمييز طبقي، تفتح أبوابها لكبار التجار، والمقربين من مراكز النفوذ، بينما يمنع عنها من لا سند له.
الدولار في ليبيا لم يعد مجرد عملة، بل تحول إلى سلعة وميدان مضاربة، ومصدر ثراء سريع، يتحكم به سماسرة الأزمات ومحتكرو الاعتمادات، ويرتفع سعره وينخفض وفق تكتيكات مضللة، وليس بفعل العرض والطلب الطبيعي، هذه المضاربة خلقت واقعًا اقتصاديًا هشًا، وأسهمت في تفشي التضخم، وغلاء المعيشة، وتحويل السوق إلى غابة، القوي فيها من يملك الدولار، والضعيف من يحيا على راتب مقيد ومهدر القيمة.
الفساد في ليبيا لم يعد مجرد انحراف إداري، بل أصبح بنية متكاملة تحكمها تحالفات بين المال والسياسة والسلاح، تنهب المليارات عبر الاعتمادات المستندية، والصفقات الوهمية، والتهريب، بينما تغيب المحاسبة، ويستبدل القانون بالوساطة والمحسوبية، تقارير الرقابة لا تجد آذانًا صاغية، والقضاء عاجز عن ملاحقة الحيتان، والفاسدون يكافَؤون بالمناصب، لا يعاقَبون، لقد باتت منظومة الفساد تتفوق على الدولة في التنظيم، والتخطيط والتمويل، وأصبحت هي صاحبة اليد الطولى في توجيه الاقتصاد نحو الخراب.
إن الطبقة الوسطى، التي كانت ذات يوم عماد المجتمع الليبي، تتعرض للتآكل السريع، وأصحاب المشاريع المتوسطة باتوا غير قادرين على مجاراة وتيرة الغلاء، ولا على تأمين مستقبل أبنائهم، أصبحوا غرباء في وطنهم، محاصرين بين قسوة الحياة واستبداد الأسواق، هذا النزيف المستمر لا يهدد فقط معيشة الأفراد، بل يقوض أسس الاستقرار الاجتماعي، ويدفع قطاعات واسعة إلى دوامة الفقر أو الهجرة أو الانكفاء القسري.
المواطن الذي كان يحلم ببيت ومستقبل آمن لأبنائه، بات اليوم يبحث عن دواء نادر، أو رغيف خبز بسعر مقبول، القلق ينهش الأسر، والبطالة تطارد الشباب، واليأس يعشش في البيوت، الحلم الوطني بات سلعة نادرة، والعدالة الاقتصادية باتت وهمًا بعيدًا.
في ظل هذا الواقع الفوضوي، حيث تتكاثر الأذرع الطفيلية للاقتصاد الموازي، وتتمدد شبكات الفساد داخل مؤسسات الدولة، تبرز القوات المسلحة الليبية كأحد الأعمدة الصلبة التي يمكن أن يعول عليها في كبح جماح الانهيار وردع الفاسدين، فعلى مدار السنوات الماضية، اضطلعت المؤسسة العسكرية بدور محوري في حماية مصادر الثروة الوطنية، من حقول النفط والموانئ، إلى المعابر الحدودية والمرافق الاستراتيجية، مانعة سقوطها في يد الميليشيات أو التنظيمات العابثة.
لكن دور القوات المسلحة لا يتوقف عند الحماية الأمنية فقط، بل يمتد حيثما أتيح لها المجال القانوني إلى كسر شوكة الفساد المنظم، وملاحقة المتلاعبين بالمال العام، لا سيما في المناطق التي تتمتع فيها بسلطة فعلية على الأرض. لقد نجحت بعض القيادات العسكرية في ضبط شبكات تهريب الوقود والسلع المدعومة، ومداهمة مستودعات التهريب، بل ووضع اليد على ملفات فساد كانت تدار في الخفاء تحت عباءة الشرعية الشكلية.
إن وجود مؤسسة عسكرية وطنية، منضبطة، غير خاضعة للتجاذبات السياسية أو الولاءات الفئوية، يمثل حجر زاوية في أي مشروع وطني حقيقي لاستعادة الدولة، فغياب الردع القانوني، وتآكل سلطة القضاء، وعجز الأجهزة الرقابية، كلها عوامل تعجل بتضخم الفساد، ولا يمكن كبحها إلا بوجود قوة تفرض النظام، وتحمي العدالة وتضمن تطبيق القانون على الجميع دون استثناء.
رغم قتامة الصورة، فإن الخلاص ليس مستحيلًا،ثمة مداخل ممكنة لإنقاذ الاقتصاد الوطني، متى توفرت الإرادة الصادقة، وأعيد الاعتبار للشفافية والمساءلة.
ليبيا لاتحتاج إلى معجزة بقدر ما تحتاج إلى رجال دولة حقيقيين، وشعب يدرك بأن خلاصه لايأتي من الخارج، بل من وعى داخلي يعيد الأمور إلى نصابها،إن إنقاذ الاقتصاد الليبي ليس ترفا، بل ضرورة وجودية تحفظ للبلاد ماتبقى من كرامة وللمواطن ماتبقى من أمل.