مقالات الرأي

عودة الملايين من الظل.. أموال تتدفق وأسئلة تتراكم

بقلم/ عثمان الدعيكي

في سباق محموم مع الزمن، شهدت المصارف الليبية خلال الأسابيع الأخيرة من سبتمبر 2025 حركة غير اعتيادية، إذ توافد المواطنون والتجار لإيداع مبالغ ضخمة من النقد المحلي قبل انتهاء المهلة التي حددها مصرف ليبيا المركزي لإلغاء التداول بالإصدارات القديمة من فئتي 5 و20 دينارًا. المشهد كان لافتًا: أشخاص يودعون عشرات الملايين دفعة واحدة، في صور لم تشهدها المصارف منذ سنوات طويلة.

الأرقام تعكس حجم الظاهرة؛ فقد تجاوزت الإيداعات في أغسطس وسبتمبر 2.7 مليار دينار، أي ما يزيد على خمسة أضعاف المعدل الشهري الطبيعي. الأمر يطرح تساؤلات جوهرية: أين كانت هذه الأموال؟ ما طبيعة الأنشطة التي ولّدتها؟ وكيف بقيت خارج الدورة المصرفية بهذا الحجم الضخم؟

بيانات المركزي تكشف أن السيولة المتداولة خارج المصارف بلغت منتصف 2024 نحو 45 مليار دينار، أي 55% من الكتلة النقدية، وهي نسبة من الأعلى عالميًا، مقارنةً بـ12% في الاتحاد الأوروبي و8% في الولايات المتحدة. حتى في الاقتصادات الناشئة مثل مصر والمغرب لا تتجاوز 30%. هذا الانفصال يعكس ضعف الثقة بالمصارف ويفتح الباب لتكديس الأموال الناتجة عن التهريب أو الفساد، ما يستدعي تطبيق قانون “من أين لك هذا” لتعقب مصادر الثروة.

اقتصاديًا، أدى تضخم الكتلة النقدية إلى ارتفاع الأسعار وتراجع قيمة الدينار. فقد بلغ التضخم السنوي في النصف الأول من 2025 نحو 11.8%، فيما انخفض سعر الصرف في السوق الموازية من 5.50 دينار للدولار في يونيو إلى 8.30 في سبتمبر، رغم استقرار احتياطي النقد الأجنبي عند 60 مليار دولار.

إزاء ذلك، تجد السياسة النقدية نفسها أمام معادلة صعبة: استيعاب السيولة داخل الجهاز المصرفي دون دفع معدلات التضخم لمستويات أعلى. ويتطلب هذا تنسيقًا صارمًا بين المركزي ووزارة المالية لتوجيه الأموال نحو النشاط الإنتاجي.

الموجة الأخيرة من الإيداعات جاءت ضمن إصلاح نقدي يستهدف تحديث العملة وتنظيف السوق من الأوراق القديمة، لكنها كشفت عمق الاقتصاد الموازي الذي نما في الظل منذ 2011. الأموال العائدة ليست كلها نظيفة؛ بل مزيج من مدخرات مشروعة وأرباح أنشطة غير قانونية استفادت من غياب الرقابة.

صحيح أن إدخال هذه الكتلة النقدية قد يحسّن السيولة البنكية، لكن من دون آليات تحقق شفافة وفق معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فإن الخطر قائم. المطلوب ليس فقط تبديل عملة، بل اختبار لقدرة الدولة على استعادة السيطرة على المنظومة النقدية وإعادة الثقة بالمصارف.

فالمال الخارج من الظل يحتاج إلى ضوء القانون، والاقتصاد الليبي لن يتعافى ما لم تتحول هذه السيولة إلى أموال منتجة داخل الاقتصاد الشرعي، وما لم تُستعد ثقة المواطن في الدولة نفسها.

زر الذهاب إلى الأعلى