دكتاتورية الصندوق

بقلم/ ناجي إبراهيم
عرفت البشرية أعتى أشكال الدكتاتورية في عصر الملكيات، التي ربطت شرعيتها بالدين، وأقامت فيما بعد تحالفات مصلحية مع الكنيسة، وتقاسم النفوذ، وتغييب الشعب بكامله، وعرفت هذه النظم تراجعًا كبيرًا في جميع أنحاء العالم لجهة توسيع مشاركة المواطنين في انتخاب من يحكمهم،إضافة إلى حقهم في حق التعبير عن مطالبهم ورغباتهم (حق الصراخ) الشعب بعد أن كان رعايا تقدم خطوة نحو الكرامة الإنسانية بالاعتراف بمواطنيته ومساواته مع الحاكم بعد أن كان الحاكم يوضع في خانة لايبلغها أي مواطن، تراجعت هذه القبضة الحديدية والتسلطية أمام وعي الجماهير المطالبة بحقها في ممارسة السلطة والمساواة في الكرامةالإنسانية، مدعومة بتحولات كبيرة حدثت في أوروبا على الصعيد الفكري والنضالي والحراك الشعبي، تنازل الحكام عن جزء من امتيازاتهم، وبعض من سلطانهم، لصالح دافعي الضرائب من الطبقة الإقطاعية التي كانت تقاسمت صنع القرار مع القصر الملكي ليتشكل أول برلمان غير منتخب شعبيا في بريطانيا في القرن الثالث عشر، ليشهد العالم تحولات أكتر جذرية وأقرب إلى مطالب الشعب بالمشاركة واختيار الحاكم.واعتبرت الثورة الفرنسية هي الجسر الذي انتقلت عليه البشرية من عصر التسلط والطغيان والديمقراطية، الأمر الذي دفع بعض الملكيات ولكي تنجو من السيل الجارف الذي بدأ يزحف نحو عروشهم لاقتلاعهم، أن تتخلى عن بعض من سلطاتها لحكومات وبرلمانات منتخبة، وتبقي على ما راكمته من ثروات ووجاهات اجتماعية تنفذ منها للتأثير على الخيارات والمسارات الشعبية فيما بعد (القصر البريطاني مثال لذلك).
لكن هذا لا ينفي أن ما حدث في أوروبا والغرب عقب ما سمي (الثورة البريطانية) التي تجسدت في أول وثيقة اعتبرها البعض حقوقية(الماجناكارتا) رغم أنها لا تمنح الحقوق لجميع المواطنين ولم تقلص جميع سلطات الملك، لا ننفي أن ما حدث تحول كبير توج بالثورة الفرنسية على الملكية وظهور نظام جديد يقطع مع النظام السابق ويرسي دعائم أول مشاركة للشعب في اختيار من يحكمه في تداول يلغي الوراثة لأول مرة في التاريخ، وميلاد أول نظام جمهوري، وقيام أول جمهوريةفي التاريخ،إلا أن ذلك ظل ناقصا لعدم وضع حد فاصل بين المال والسلطة الذي شكل فيما بعد بابا آخر لتسلط رأس المال على الإدارة الحكومية تشريعا وتنفيذًا وأعاد الإنسانية إلى المربع الأول دكتاتورية بالصندوق أو يمكن أن نسميه(تداول الدكتاتورية)، واقتصرت مشاركة الشعب مرتبطة بتلك الطوابير التي تصطف يوم انتخاب الدكتاتور الذي لن يتصل بالشعب إلا مرة كل دورة انتخابية، ليطلب أصواتهم مقابل وعود لا تتحقق، المغرب ظلت الاستثناء الوحيد في العالم الذي لم تنتقل فيه السلطة من القصر إلى الحكومة والبرلمان رغم الطقوس الانتخابية التي تأتي بطوابير الرائعين تحت أقدام عائلة محمد الخامس في أبشع صور امتهان الكرامة الإنسانية.
يشهد المغرب هذه الأيام إرهاصات ثورة شعبية وسط تعتيم إعلامي تام وتجاهل من النخب التي ادعت أنها تساند الشعوب في تحولها نحو الديمقراطية كالذي صاحب ما عرف (بثورات الربيع العربي) والذي تبين فيما بعد أنها مخطط غربي استعماري لتكون البوابة التي تعود منها للمنطقة مرة أخرى بعد أن غادرتها على يد كفاح وجهاد الشعوب.
المغرب البلد الوحيد في المنطقة والعالم والمؤهل منذ عقود أن تندلع فيه ثورة من أجل الكرامة الإنسانية أولا، وتحقيق الحرية والعدالة، والقضاء على الهيمنة الغربية الاستعمارية، وفك الارتباط العضوي بين الأسرة الحاكمة والكيان العنصري في فلسطين المحتلة.
كل سبب من هذه الأسباب هو مبرر لاندلاع الثورة،إلاأن آلة القمع والبطش التي مارسها النظام المغربي هي التي أجهضت أي تحول حقيقي في المغرب نحو الحرية والكرامة، وكل عمليات القمع تم التعتيم عليها طيلة هذه العقود ووجدت دعمًا من الحكومات في الغرب، والتي استفادت من النظام العلوي في المغرب لتحقيق مصالحها في المغرب، وتعطيل كل المشاريع القومية العربية.
رغم حجم المظاهرات التي شهدتها المدن المغربية وعدالة قضية الشعب المغربي في مطالباته بالحرية والعدالة والكرامة فإنها قوبلت بحجم كبير وغير مبرر من القمع وسط صمت رسمي عالمي وتعتيم إعلامي ممنهج ومقصود للتغطية على الجريمة البشعة التي يرتكبها حكام المغرب ضد شعبهم لا تقل بشاعة عن الذي تمارسه عصابات الكيان الصهيوني ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي يواجه أبشع احتلال على التاريخ.
هذا التعتيم وهذا الصمت يجعلنا متيقنين أن العالم الغربي والأمم المتحدة تشترك في الجريمة التي يرتكبها النظام المغربي ضد شعبه.
لم أنقل لكم تشاؤمي حول مستقبل الحراك والانتفاضة الشعبية في المغرب كي لا أنزع الأمل منكم، ومن شعوب أخرى يمارس عليها القمع برعاية الخارج أيضا.
ونختم بقول الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
وندعو الله أن يقوي عزائم أهلنا في المغرب.