من بلفور إلى السنوار.. فلسطين تستعيد المبادرة

إعداد ـ سيد العبيدي
بعد مرور نحو أكثر من قرن على صدور “وعد بلفور” المشؤوم – نوفمبر 1917، الذي أعلنه وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور ومنح بموجبه الحركة الصهيونية شرعية إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين التاريخية، تعود بريطانيا اليوم لتكتب صفحة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط بإعلانها الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين. هذا القرار، الذي جاء بعد 108 أعوام من السياسات البريطانية التي هيأت الأرضية لقيام الكيان الصهيوني وما تبعه من تهجير ومعاناة للشعب الفلسطيني، اعتبره مراقبون اعتذارًا متأخرًا عن سياسة استعمارية أثقلت كاهل المنطقة بأزمات متواصلة منذ نكبة 1948 وحتى اليوم.
ويشير الاعتراف البريطاني بالدولة الفلسطينية إلى تحوّل لافت في مواقف القوى الغربية الكبرى تجاه القضية الفلسطينية، في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية في غزة وتوسع الاستيطان في الضفة الغربية وتراجع فرص السلام، ويُنظر إليه باعتباره خطوة تاريخية يمكن أن تعيد الزخم الدولي لمبادرة “حل الدولتين” وتفتح الطريق أمام دول أخرى للحاق بركب الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وبينما يرى الفلسطينيون في هذه الخطوة إنصافًا متأخرًا وتكريسًا لحقهم في تقرير المصير، يربط محللون بينها وبين التحولات العميقة في الرأي العام العالمي حيال الاحتلال وسياساته، التي تعززت عقب اندلاع معركة “طوفان الأقصى” – أكتوبر 2023 وما تبعها من تطورات إنسانية وسياسية وضعت القضية الفلسطينية مجددًا في قلب الاهتمام الدولي.
بريطانيا تعترف بدولة فلسطين
والاثنين 21 سبتمبر الجاري، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، في بيان أمام مجلس العموم، اعتراف حكومة المملكة المتحدة رسميًا بدولة فلسطين، مؤكّدًا أنّ القرار جاء في إطار “إبقاء إمكانية السلام وحل الدولتين” في ظلّ استمرار حرب الإبادة الجماعية والتصعيد العسكري في غزة والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية.
وقال ستارمر: “أمام المشاهد المروّعة في الشرق الأوسط، نتحرّك اليوم من أجل دعم السلام، ولا بد أن يكون هناك دولة فلسطينية قابلة للحياة حتى تبقى هناك دولة آمنة ومستقرة” في إشارة إلى “دولة الاحتلال” التي تفتقد إلى الأمان في الوقت الراهن، مضيفا أن الشعوب العادية – “فلسطينيين – صهاينة” تستحق أن تعيش في أمن وسلام وأن تبني حياتها بعيدًا عن العنف والمعاناة. حسب قوله.
الأزمة في غزة غير مقبولة
وأشار رئيس الوزراء البريطاني إلى أنّ الأزمة الإنسانية في غزة بلغت “أعماقًا غير مقبولة”، منتقدًا القصف الصهيوني المتواصل والقيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية، ودعا إلى رفع هذه القيود فورًا والسماح بتدفق الإغاثة. كما شدّد على ضرورة الإفراج الفوري عن جميع الأسرى الصهاينة المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
وأضاف ستارمر: “كنا دائمًا ندعم “حل الدولتين”، لكننا لم نعترف سوى بدولة واحدة. اليوم نغيّر ذلك. المملكة المتحدة تعترف رسميًا بدولة فلسطين، إلى جانب اعترافنا منذ أكثر من 75 عامًا بدولة الاحتلال الصهيوني وطنًا للشعب اليهودي”.
خطوة حول حل الدولتين
وأوضح أنّ هذه الخطوة تأتي في إطار خطة سلام بريطانية–دولية لإحياء مفاوضات جادّة حول حل الدولتين، وإصلاح السلطة الفلسطينية، وتحقيق وقف لإطلاق النار، وتسهيل وصول المساعدات إلى ملايين الفلسطينيين المحاصرين في غزة.
وأشار إلى أن الاعتراف البريطاني بالدولة الفلسطينية لا يعني أننا نقدم مكافأة للمقاومة الفلسطينية، بل تعهّدا للشعبين الفلسطيني والصهيوني بأن مستقبلًا أفضل ممكن. يجب أن نتحدّ جميعًا خلف أمل السلام والأمن وإنهاء المعاناة والعودة إلى حل الدولتين باعتباره أفضل أمل لتحقيق سلام وأمن دائمين للجميع. وصرّح “ستارمر” قبل أشهر بأن بلاده ستعترف بدولة فلسطين ما لم يتخذ الاحتلال “خطوات جوهرية لإنهاء الوضع المروع في غزة، والموافقة على وقف إطلاق النار، والالتزام بسلام طويل الأمد ومستدام، وإحياء آفاق حل الدولتين”.
الخلفية التاريخية لـ “وعد بلفور”
في عام 1917 ومع بداية فترة انتدابها على فلسطين، أعلنت بريطانيا على لسان وزير خارجيتها آنذاك آرثر بلفور وعدا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ما سهَّل من عمليات الاستيطان الصهيونية داخل أراضي فلسطين التاريخية وأطلق يد عصابات الحركة الصهيونية مدعومة من الجيش البريطاني وحكومته في تنفيذ المجازر وخطط التهجير بحق الفلسطينيين، فضلا عما قامت به حكومة بريطانيا الانتدابية من دور في قمع أشكال المقاومة كافة كثورة البراق عام 1929 والثورة الكبرى عام 1936.
وكان وعد بلفور قد تحوّل إلى خطة عمل رسمية للانتداب البريطاني، فتح أبواب فلسطين أمام تدفق المستوطنين اليهود، وشارك الحركة الصهيونية في بناء الأسس المادية للدولة اليهودية الموعودة، مانحًا إياها الأرض والسلاح والتدريب والمال. في المقابل، عطل ذلك الوعد الظالم مشروع الحركة الوطنية الفلسطينية – العربية في مواجهة الحركة الصهيونية، كما حال دون إمكانية بلورة الدولة الفلسطينية كيانها على أرضها التاريخية.
القضية الفلسطينية في دورة خاصة
وفي 28 أبريل 1947 عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة جلسة خاصة بالقضية الفلسطينية تقرر فيها تشكيل لجنة دولية للتحقيق. وبعد أربعة أشهر من إرسال اللجنة إلى فلسطين كان تقريرها مشابهًا لتقرير اللجنة الملكية البريطانية حيث أوصت بإبقاء الصفة الدينية لجميع الأماكن المقدسة، واعتماد الوسائل السلمية لإقرار أي حل.
وكانت التوصية الثالثة في هذا العرض هي تقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية، وتتكون حدود الدولة العربية من الجليل الغربي ونابلس الجبلية والسهل الساحلي الممتد من أسدود جنوب يافا حتى الحدود المصرية، بما في ذلك منطقة الخليل وجبل القدس وغور الأردن الجنوبي، وتبلغ مساحة هذه الدولة 12 ألف كيلومتر مربع. أما المنطقة اليهودية فتتألف من الجليل الشرقي ومرج بن عامر والقسم الأكبر من السهل الساحلي ومنطقة بئر السبع والنقب.
وتبلغ مساحة هذه المنطقة التي تعتبر أخصب الأراضي الفلسطينية 14200 كيلومتر مربع. أما الأماكن المقدسة فتشمل مدينة القدس ومنطقتها وتوضع تحت الوصاية الدولية ويعين مجلس الوصاية للأمم المتحدة حاكمًا غير عربي وغير يهودي لهذه المنطقة.
تقسيم فلسطين لصالح الصهاينة
وفي جلسة عقدتها الأمم المتحدة في 23 سبتمبر 1947 تقرر تحويل المشروع إلى لجنة خاصة تشكلت من ممثلين عن كل الدول الأعضاء بما فيهم ممثل يهودي وآخر فلسطيني، وقد رفض المندوب الفلسطيني المشروع بعد استعراض تاريخي لجذور القضية الفلسطينية، في حين أعلن المندوب اليهودي موافقته على المشروع مع مطالبته لضم الجليل الغربي ومنطقة القدس إلى الدولة اليهودية.
وفي 29 نوفمبر 1947 طرح مشروع التقسيم للتصويت فصودق عليه بأغلبية 33 صوتًا مقابل معارضة 13 صوتا وامتناع عشر دول عن التصويت. وفي 15 مارس 1948 أعلنت بريطانيا انتهاء الانتداب على فلسطين وأعلنت الجلاء في أغسطس من العام نفسه وأكدت أنها لن تمارس أي سلطات إدارية أو عسكرية بعد أن مكنت الصهاينة من أرض فلسطين.
تبعات سياسة القرار البريطاني
في 14 مايو من العام ذاته، أعلنت الحركة الصهيونية عن قيام دولة الاحتلال عام 1948، وقد أدى هذا الإعلان إلى اندلاع حرب بين الاحتلال الصهيوني المدعوم غربيا والدول العربية المجاورة، وخصوصًا مصر والأردن والعراق وسوريا ولبنان. وانتهت الحرب بخروج الفلسطينيين من معظم الأراضي التي كانت تحت سيطرتهم، وأصبح أكثر من 750.000 فلسطيني لاجئين في دول الجوار. هذه الأحداث تُعرف باسم النكبة الفلسطينية، التي غيرت بشكل جذري التركيبة الديمغرافية والجغرافية لفلسطين.
كما أدى إعلان تأسيس “دولة الاحتلال” بداية عملية التهجير القسري للفلسطينيين من أراضيهم ومنازلهم، وهو ما شكل بداية للمأساة الفلسطينية المستمرة حتى اليوم. وكان ذلك بداية لواقع جديد حيث أصبحت الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال الصهيوني، مع استيطان يهودي مكثف في مناطق كانت يومًا من الأيام عربية فلسطينية.
العدوان الثلاثي على مصر
ولم يتوقف الدور البريطاني عند إقامة الكيان الصهيوني في 15 مايو 1948، بل امتد إلى تحالف سياسي وعسكري مع الاحتلال الصهيوني وفرنسا في مواجهة أي نهوض وطني عربي، وتجسد ذلك في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي شكّل نموذجًا للتحالف الاستعماري ضد محاولات التحرر العربي. ومنذ نكسة يونيو 1967، تمدد المسار الصهيوني العدواني في المنطقة على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية حتى حرب أكتوبر 1973 التي انتهت بتحرير كامل سيناء وطرد الصهاينة.
تأثير النكبة والنكسة على حياة الفلسطينيين
وقد أدت نكبة 1948 وبعدها نكسة 1967 إلى تشريد الشعب الفلسطيني الذي أصبح منتشرًا في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في مخيمات اللاجئين في الدول العربية المجاورة. وقد أدى هذا الشتات إلى فقدان الهوية الثقافية الفلسطينية بشكل جزئي وخلق تحديات جديدة من حيث التعليم والعمل. رغم ذلك ساهمت حروب 1948 و1967 في انخراط الشعب الفلسطيني في النضال السياسي. حيث بدأت منظمة التحرير الفلسطينية في عقد اجتماعات ومؤتمرات دولية للدفاع عن حقوق الفلسطينيين.
في المقابل، أثرت تلك الحروب على الأجيال الفلسطينية، حيث تم نقل التجربة القاسية من جيل إلى آخر، ما خلق جيلًا من الفلسطينيين الذين يعيشون في الشتات ويحملون شعورًا عميقًا بالظلم والحاجة للعودة إلى وطنهم، كما أدت تلك الحروب إلى فقد العديد من الفلسطينيين أراضيهم الزراعية، التي كانت تعد المصدر الرئيسي للعيش. وأدى التشرد إلى خلق أعداد كبيرة من العائلات الفلسطينية التي أصبحت تعتمد على المساعدات الدولية.
وقد انحصر النشاط الاقتصادي الفلسطيني في مخيمات اللاجئين، حيث كانت هذه المخيمات تعاني تدني مستوى المعيشة، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية. كذلك كانت الضفة الغربية وغزة تعاني محدودية فرص العمل، حيث كان الاحتلال يسيطر على الأسواق ويفرض قيودًا على التجارة. وكان الفلسطينيون في الأراضي المحتلة يواجهون صعوبة كبيرة في بناء اقتصاد مستدام.
الانتفاضة الأولى للفلسطينيين ضد الاحتلال
ومع مرور السنوات، أصبح الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية يشكل جزءًا من الواقع اليومي للفلسطينيين، وبدأت القضية الفلسطينية تتطور بشكل يتسم بالمقاومة المستمرة، سواء من خلال الانتفاضات الشعبية أو عبر العمل الدبلوماسي على الساحة الدولية. وأدت التوترات المستمرة في الأراضي الفلسطينية إلى اندلاع “الانتفاضة الأولى” في عام 1987 وحتى 1993 كانت الانتفاضة رد فعل على سياسة الاحتلال، بما في ذلك مصادرة الأراضي، بناء المستوطنات، والحواجز العسكرية.
وانخرط الشعب الفلسطيني بشكل جماعي في المقاومة الشعبية ضد القوات الصهيونية، من خلال “ثورة الحجارة” أو المظاهرات والعصيان المدني. فيما شكلت هذه الانتفاضة نقطة تحول في تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني، حيث بدأت تتشكل حركات مقاومة مسلحة ومنظمة ضد سياسة الاحتلال الاستعمارية مثل حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وحركة الجهاد الإسلامي لتكون جزءًا من المشهد السياسي الفلسطيني.
“انتفاضة الحجارة” تحرك المجتمع الدولي
في المقابل، كان المجتمع الدولي يشهد تزايدًا في الاهتمام بالقضية الفلسطينية، حيث بدأت المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة تصدر قرارات تدين الاحتلال الصهيوني، وتدعو إلى تطبيق قراراتها المتعلقة بحقوق الفلسطينيين، دون تأثير يذكر. لكن الانتفاضة الأولى شكلت بداية لعملية السلام مع ظهور ملامح للحوار بين الفلسطينيين والصهاينة.
اتفاقية أوسلو (1993)
وفي عام 1993، تم توقيع اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الصهيونية برعاية أمريكية، والتي كانت تهدف إلى إنهاء النزاع الفلسطيني الصهيوني. نصت الاتفاقية على إقامة سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتقديم إجراءات تدريجية لإنهاء الاحتلال الصهيوني، مع فتح المجال للحديث حول وضع القدس واللاجئين في المستقبل. لكن فشل اتفاق أوسلو في تحقيق السلام الدائم بسبب استمرار العمليات العسكرية الصهيونية، وتوسيع الاستيطان، بالإضافة إلى تفشي الانقسامات الفلسطينية.
خلال تلك الفترة، تبنت دولة الاحتلال الصهيوني العديد من السياسات الأمنية التي تهدف إلى مكافحة أي مقاومة فلسطينية، سواء عبر عمليات عسكرية أو من خلال الجدار الأمني في الضفة الغربية، الذي يُعتبر وسيلة لتفادي الهجمات الفلسطينية، ولكنه في الوقت ذاته، يساهم في فصل الأراضي الفلسطينية. ووفقًا “لاتفاقية أوسلو”، تم تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: المنطقة (أ) تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة، المنطقة (ب) تحت السيطرة الأمنية الفلسطينية، والمنطقة (ج) التي تخضع للسيطرة الصهيونية. رغم هذا الاتفاق، فإن الواقع على الأرض أظهر أن دولة الاحتلال تمارس سيطرتها الفعلية على معظم الأراضي الفلسطينية.
الانتفاضة الثانية “انتفاضة الأقصى”
وقد أدت سياسة الاحتلال الصهيوني إلى فشل اتفاقية أوسلو وقيام الانتفاضة الثانية أو “انتفاضة الأقصى” عام (2000 – 2005) وذلك على خلفية زيارة رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون إلى المسجد الأقصى في القدس، وهو ما أثار غضب الفلسطينيين. تميزت هذه الانتفاضة باستخدام الأسلحة النارية، ما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا الفلسطينيين وكذلك سقوط عدد من القتلى الصهاينة. وكان تأثير هذه الانتفاضة هو تعزيز المشهد الفلسطيني داخليًا، ولكنها أدت إلى تدهور العلاقات بين الفلسطينيين والصهاينة، وزيادة الحواجز والعوائق التي فرضها الاحتلال الصهيوني في كثير من المدن والبلدات الفلسطينية.
أسباب الانتفاضة الثانية
ومن أبرز أسباب اندلاع “الانتفاضة الثانية” إخفاق مفاوضات “كامب ديفيد” فشلت مفاوضات كامب ديفيد 2000 بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الصهيوني إيهود باراك، حيث رفض الاحتلال تقديم تنازلات بشأن القدس واللاجئين. كما استخدم الاحتلال القوة المفرطة ضد الفلسطينيين العزل وقام بشن هجمات عسكرية في الضفة الغربية وغزة. وبدأ الاحتلال في بناء الجدار الأمني “الجدار العازل” وفرض حصار مشدد على المدن الفلسطينية.
هذا إلى جانب، تدهور العلاقات بين الفلسطينيين والصهاينة، وتزايد العنف، ما أثر على مسار عملية السلام. ومع مرور الوقت، ظهرت تحديات أكبر في عملية السلام بسبب التعنت الصهيوني، ما أدى إلى زيادة التوترات في المنطقة.
حملات عسكرية على قطاع غزة
ولم يكن قطاع غزة بمنأى عن ما يحدث في الضفة الغربية والقدس، فقد شهد سلسلة من الحروب والصراعات الدموية بين الاحتلال والفصائل الفلسطينية، خصوصًا مع “كتائب القسام” الجناح العسكري للمقاومة الفلسطينية. هذه الحروب كانت نتيجة توترات متصاعدة بين الجانبين، وزيادة في العمليات العسكرية الصهيونية بهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية، في حين أن الفصائل الفلسطينية كانت تسعى إلى مواجهة الاحتلال والرد على السياسات القمعية الصهيونية.
وفي المشهد، برز اسم الشهيد يحيى السنوار – قائد المقاومة الفلسطينية في غزة – كرمز لجيل جديد ضمن القيادات الفلسطينية التي رفعت راية الجهاد والمقاومة بكافة أشكالها المختلفة، في مواجهة سياسة الاحتلال. وبينما يتهمه الكيان الصهيوني بزعزعة أمنه، يراه كثير من الفلسطينيين عنوانًا للصمود في قطاع غزة وقائدا كبيرا ضحى بحياته في سبيل استرداد الحقوق الفلسطينية التي أضاعها القرار البريطاني الظالم.
وبدأت حرب “الرصاص المصبوب” في 27 ديسمبر 2008، بعد فترة طويلة من التوترات. وكانت تهدف الحرب إلى إضعاف قدرة المقاومة الفلسطينية على إطلاق الصواريخ من قطاع غزة نحو المدن الصهيونية، وبعد فشل التهدئة في 19 ديسمبر 2008، بدأ الاحتلال غارات جوية مكثفة على قطاع غزة ما أسفر عن استشهاد العديد من المدنيين الفلسطينيين.
وبعد عدة أيام من القصف الجوي، أطلق الاحتلال الصهيوني هجومًا بريًا في 3 يناير 2009، مستهدفًا مواقع للمقاومة الفلسطينية والبنية التحتية، واستخدام الأسلحة المحرمة، حيث شهدت الحرب استخدام الاحتلال للأسلحة الفوسفورية، وهو ما أثار جدلًا دوليًا حول استخدام أسلحة محظورة.
وأسفرت الحرب عن استشهد أكثر من 1400 فلسطيني، معظمهم من المدنيين، في حين أصيب الآلاف. في المقابل، قُتل 13 صهيونيا، ناهيك عن حجم الدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية، حيث تم تدمير المباني والمرافق الحيوية، ولم تؤد الحرب إلى تغيير جذري في الوضع العسكري على الأرض، وظلت المقاومة الفلسطينية في السلطة.
استمرار الحملات العسكرية على غزة
وفي نوفمبر 2012 اندلعت حرب “عمود السحاب” التي استمرت ثمانية أيام وأسفرت عن مئات الشهداء والجرحى، في مواجهة صهيونية وُصفت بأنها “عملية محدودة” بينما ركزت وسائل الإعلام على الخسائر المدنية في القطاع.
وفي صيف 2014 شن الاحتلال عملية “الجرف الصامد”، وهي الأطول والأعنف في تلك المرحلة، وأسفرت عن آلاف الشهداء والمصابين ودمار واسع في البنية التحتية، وشهدت انتقادات دولية غير مسبوقة بعد نقل وسائل الإعلام صورًا مروعة من غزة.
أما في مايو 2021 فقد اندلعت حرب “سيف القدس” التي تميزت بحضور غير مسبوق للإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى تعاطف شعبي عالمي واسع مع الفلسطينيين.
معركة “طوفان الأقصى” 2023
وفي أكتوبر 2023 بدأت حرب “طوفان الأقصى” التي تستمر حتى اليوم وأسفرت عن استشهاد أكثر من 65 ألف فلسطيني وإصابة أكثر 150 ألفًا، وتعد الأكثر انتشارًا إعلاميًا وتقنيًا، حيث واكب الإعلام الدولي والرقمي تطوراتها لحظة بلحظة، ما جعلها إحدى أكثر المواجهات حضورًا في الوعي العالمي، كما أسفرت عن تزايد الاعتراف الدولي بدولة فلسطين وعلى رأس هذا الدول بريطانيا التي كانت سببًا في زرع هذا الكيان في المنطقة العربية.
بريطانيا مسؤولة عن الجرائم التاريخية في فلسطين
في سياق متصل، تقدمت مجموعة من الفلسطينيين، الأحد، بعريضة قانونية رسمية إلى الحكومة البريطانية، تطالبها بتحمل المسؤولية عن انتهاكات جسيمة ارتكبتها خلال فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين (1917–1948)، وما تسببت به من آثار مدمرة لا تزال تتردد حتى اليوم.
وتأتي العريضة ضمن حملة أطلق عليها اسم “بريطانيا مدينة لفلسطين”، وتدعو لندن إلى الاعتراف العلني بدورها التاريخي في معاناة الفلسطينيين، وتقديم اعتذار رسمي وتعويضات عن “قرن من القمع”، وفق نص الوثيقة.
وتستعرض العريضة، التي أعدها نشطاء في مجال حقوق الإنسان، تتكون من أكثر من 400 صفحة، ما وصفتها بـ”أدلة دامغة” على المخالفات البريطانية للقانون الدولي خلال فترة الانتداب. وتشمل المخالفات: وعد بلفور عام 1917، الذي تعهد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين دون مراعاة لحقوق سكانها الأصليين.
كذلك الإدارة الاستعمارية غير القانونية خلال الانتداب البريطاني، والتي اتهمت بفرض نظام قمعي ضد السكان الفلسطينيين، قمع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936–1939)، عبر استخدام العنف المفرط، والاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإعدامات الميدانية.
صنعت في بريطانيا
رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري “91 عاما” أحد مقدمي العريضة، تحدث لصحيفة الغارديان قائلا إن “الأزمة الحالية في فلسطين صنعت في بريطانيا”، مذكرا بإصابته برصاصة أطلقها جنود بريطانيون عليه حين كان في الثالثة عشرة من عمره.
وأضاف المصري أن المملكة المتحدة لا يمكن أن تلعب دورا بناء في تحقيق سلام عادل في المنطقة من دون الاعتراف بمسؤولياتها التاريخية، معتبرا الاعتذار نقطة بداية ضرورية.
نحو المساءلة الدولية
المذكرة القانونية، التي تم إعدادها على مدار سنوات، هي محاولة لتحميل بريطانيا المسؤولية عن فشلها في حماية الفلسطينيين، خاصة عند انسحابها من فلسطين دون ضمان حقوقهم أو الحفاظ على وحدة البلاد.
ويؤكد الفريق القانوني المكلف بالملف، والذي يضم شخصيات بارزة مثل بن إيمرسون (المقرر الأممي السابق لحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب)، أن العريضة تستند إلى التزامات المملكة المتحدة بموجب القانون الدولي، وتشكل أرضية قانونية قوية قد تفضي إلى مراجعة قضائية أمام المحكمة العليا في لندن إذا لم تستجب الحكومة البريطانية.
إرث الاستعمار البريطاني
تسجل العريضة كيف استخدمت بريطانيا سلطتها الاستعمارية لقمع السكان الفلسطينيين، بما في ذلك فرض قوانين عرفية، واحتجاز جماعي، وإعدامات، وارتكاب انتهاكات ترقى إلى مستوى جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية.
كما تذكر العريضة أن بريطانيا أخلت بوعدها في مراسلات مكماهون-الحسين، التي تعهدت فيها بدعم قيام دولة عربية مستقلة في المنطقة خلال الحرب العالمية الأولى، وهو ما لم يحدث.
سوابق بريطانية للاعتذار
ويستشهد مقدمو العريضة بحالات سابقة قدمت فيها بريطانيا اعتذارات رسمية عن جرائم استعمارية، مثل اعتذارها في مارس الماضي عن مجزرة باتانغ كالي في مالايا عام 1948، ما يعزز مطلب الفلسطينيين بالمعاملة بالمثل.
العريضة لا تتطرق للطعن في الاعتراف القانوني بدولة إسرائيل بعد عام 1948، بل تركز على مسؤولية بريطانيا خلال الحقبة التي سبقت النكبة، وما ترتب عليها من تهجير وتشتيت للفلسطينيين.