ملامح تحول عالمي في القضية الفلسطينية

بقلم/ محمد بوخروبة
يفرك بنيامين نتنياهو عينيه، عاجزًا عن التصديق، ليس بسبب صاروخ سقط على تل أبيب، بل لأن العالم الذي طالما عول على صمته، بدأ يرفع صوته هذه المرة، لا تأتي الضربات من فصائل المقاومة، بل من عواصم القرار، قذائف الاعتراف تتوالى.. من كندا إلى أستراليا، مرورًا ببريطانيا، وأخيرا فرنسا، وتحديدا بريطانيا تحمل وقعًا رمزيًا خاصًا كأنها رد متأخر على وعد بلفور، واعتذار ضمني عن قرن من الظلم.
نتنياهو في مأزق لا تخطئه العين، فالعالم لم يعد قابلًا للإسكات، ولا تصلح الطائرات ولا آلة القمع لإخماد الضمير الإنساني، في قلب المشهد، غزة تحولت إلى مرآة دامية تعكس فظائع لا يمكن إنكارها أو تجميلها، أبراج تنهار فوق رؤوس ساكنيها، خيام تحترق بمن احتموا بها، أطفال يقتلون في أحضان أمهاتهم، وجثامين صغيرة تبحث عن قبور أصغر.
اليوم، يقف الضمير العالمي أمام محكمة إنسانية لا مفر منها، ورغم حجم المأساة، فإن الحلم الفلسطيني يثبت من جديد أنه عصي على الانكسار، ما دام قادرًا على الاختباء في عيون طفل، أو في ذاكرة عجوز، فهو باق لا الجيوش اقتلعته، ولا الصواريخ محته، ومن ظن أن الضمير العالمي حجر، بدأ يدرك الآن أن الغيبوبة لا تدوم، وأن العالم من نيويورك إلى سانتياغو بدأ يستفيق.
الأمم المتحدة لم تعد مجرد شعار، ها هو أنطونيو غوتيريش يدمع علنًا، والمجتمع الدولي، لأول مرة منذ عقود، يعيد تعريف مواقفه، مدفوعًا بواقع لا يمكن التستر عليه، وبدماء لا يمكن غسلها بالبيانات.
القضية الفلسطينية لم تعد نزاعًا محليًا، هي الجرح المفتوح في قلب الشرق الأوسط، وشاهد دامغ على عجز النظام الدولي عن حماية الإنسان حين يصير ضحية حسابات القوة، ومع كل مجزرة في غزة، يعود السؤال القديم إلى الواجهة، أين الحق؟ وأين الدولة الفلسطينية؟
في هذا السياق، تحاول حكومة نتنياهو، عبر ما تسميه ما بعد الطوفان، إعادة رسم خريطة المنطقة، فلقد أسقطت النظام السوري، وطردت إيران من سوريا، وحيدت حزب الله، بل تم استهداف قادة حماس في الدوحة، كل ذلك يجري تحت عباءة محاربة الإرهاب، بينما الحقيقة على الأرض تقول، ما يرتكب هو مشروع اقتلاع سياسي وجغرافي وتاريخي.
لكن هذا المشهد القاتم يقابله حراك دبلوماسي نوعي، نيويورك هذا الأسبوع تحتضن مؤتمرًا دوليًا غير مسبوق حول حل الدولتين، برعاية فرنسية سعودية، ومشاركة واسعة من دول أوروبية كبرى، ليس مؤتمرًا اعتياديًا، بل لحظة مفصلية قد تغير مسار الصراع، فاعترافات متتالية بدولة فلسطينية تتساقط كأوراق الخريف، ومعها تسقط أكذوبة إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
التغيير ليس سهلًا، لا على حلفاء إسرائيل، ولا على العواصم التي لطالما صمتت، لكن المعادلة تغيرت، القضية لم تعد عبئًا سياسيًا، بل أصبحت شرطًا لاستقرار الإقليم، بل العالم، فحل الدولتين لم يعد مجرد شعار نردده في خطب الأمم المتحدة، بل بات خيارًا اضطراريًا لقطع الطريق على مزيد من الحروب، وعلى مشاريع الهيمنة الإسرائيلية.
وحده هذا الحل يعيد إسرائيل إلى حجمها وحدودها، ويمنح الفلسطينيين أفقًا سياسيًا طال انتظاره، وحتى مع التردد الأمريكي، فإن الزخم الدولي والعربي والإسلامي آخذ في التصاعد، وواشنطن وإن تأخرت، لن تبقى على الهامش طويلًا، فمصالحها هي الأخرى مهددة بانفجار إقليمي لا تحمد عقباه.
لكن الاعتراف ليس النهاية، بل البداية، معركة الترجمة على الأرض، تبدأ الآن، في الداخل الإسرائيلي، حيث اليمين المتطرف يزداد تطرفًا، وبين الفلسطينيين أنفسهم، حيث لا بد من وحدة حقيقية تتجاوز الفصائل إلى مشروع الدولة، المعركة أيضًا في دهاليز السياسة الدولية، خصوصًا في واشنطن، حيث تتشكل السياسات بصعوبة، لكن يمكن دفعها بالزخم الصحيح، فالرسالة باتت واضحة، لا مستقبل في القتل، لا سلام في القمع، ولا استقرار بلا عدالة، المطلوب اليوم هو إرغام حكومة نتنياهو على وقف إطلاق النار، والعودة إلى طاولة المفاوضات، ضمن مرجعيات الشرعية الدولية، لا ضمن شروط القوة، وهذا لن يتحقق دون إرادة دولية حاسمة، تضع حدًا لتمادي الاحتلال، وتفتح نافذة حقيقية للخروج من النفق.
أما الفلسطينيون، فالمعركة التي أمامهم أعمق من فصائل وأكبر من خلافات، إنها معركة بقاء الحلم الفلسطيني، الذي لا يزال على قيد الحياة، رغم سبعة عقود من الاقتلاع والتنكيل، الدولة لا الفصيل هي الأولوية، والشعب لا الشعار، هو من يستحق التضحية، وكما قال ياسر عرفات ذات يوم “الدولة على مرمى حجر”، وكأنه كان يعلم أن آلة القتل مهما تعاظمت، لن تقتل الحلم، فاليوم، من بين ركام غزة، ومن نافذة نيويورك، يطل الحلم مجددًا.