مقالات الرأي

الهندسة السكانية.. والاستعمار الناعم

بقلم / عفاف الفرجاني 

 تتصاعد في الأفق الليبي مؤشرات خطيرة حول مشاريع غير معلنة تسعى إلى توطين المهاجرين، سواء من بعض الدول الأفريقية جنوب الصحراء، أم من أطراف عربية أنهكتها الصراعات الداخلية تحت ذرائع “الإنقاذ الإنساني والمسؤولية الأخلاقية”. غير أن المتأمل في عمق هذه الأطروحات يدرك أن الأمر لا يتجاوز كونه إعادة إنتاج لسياسات التغيير الديموغرافي الممنهجة بما تحمله من تهديد مباشر لسيادة الدولة وهويتها الثقافية والاجتماعية، وتنفيذ بعض السياسات الاستعمارية في بعض الدول.

فليبيا التي تشكلت عبر قرون من التراكمات الحضارية والانسجام القبلي والروابط التاريخية ليست فراغا جغرافيا قابلا للملء العشوائي، ولا هي أرض بلا مالك حتى تتحول إلى “بديل جغرافي” لإدارة أزمات الآخرين. إن محاولات تمرير هذه المخططات عبر الخطاب الإنساني العاطفي لا تعدو كونها استثمارا فجًّا في هشاشة المرحلة السياسية واستغلالا للانقسام المؤسساتي الذي حول البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية.

إن أخطر ما في هذه المسألة أنها لا تتوقف عند حدود الإغراق السكاني، بل تتجاوزها إلى إعادة هندسة التركيبة الاجتماعية الليبية وزرع مكونات دخيلة غير مندمجة تاريخيا أو ثقافيا. إن قبول هذه العملية يعني تفكيك البنية الوطنية وتحويل ليبيا إلى مسرح مفتوح للتجاذبات حيث تتوارى الهوية الجامعة خلف خليط من الأعراق والانتماءات العابرة بما يفضي في النهاية إلى انمحاء الدولة الوطنية نفسها.

لقد قاوم الليبيون عبر التاريخ كل أشكال الغزو العسكري والهيمنة الاستعمارية، فكيف يعقل أن تفرض عليهم اليوم وصاية ديموغرافية تحت مسمى (المجتمع الدولي)، أو عبر ضغوط المنظمات العابرة للحدود؟ إن الأمن القومي لا يقتصر على حماية الحدود بالسلاح، بل يمتد إلى حماية النسيج الاجتماعي من أي محاولة للتذويب أو الاستبدال. وما يجري ترويجه الآن يندرج في إطار ما يسميه علماء الجيوبولتيك بـ “الهندسة السكانية”، وهي أخطر من أي احتلال صريح لأنها تعمل على تقويض المجتمع من الداخل.

من هنا فإن التصدي لهذه المشاريع لا يعد ترفا سياسيا، بل واجبا وطنيا لا يقل قداسة عن مقاومة الاستعمار. فإبقاء ليبيا “معسكرا مفتوحا” للاجئين والمهاجرين هو خيانة لميراث الشهداء الذين صاغوا معادلة الحرية بالدم وتفريط في المستقبل الذي يستحقه الأبناء. إن الشرعية الوطنية تقتضي أن تدار هذه الملفات ضمن رؤية سيادية صلبة تعلي من شأن الهوية وتغلق الباب أمام كل أشكال التلاعب الديمغرافي الذي يراد به تحويل ليبيا إلى وطن بديل.

ليبقى المبدأ واضحا ليبيا لأهلها، ومن أراد أن يعيش فيها فليحترم قوانينها وسيادتها بشكل شرعي وحقيقي بعيدا عن أي إملاءات تغلف بالشعارات الإنسانية وتدار في الكواليس السياسية.

إن ما يُطرح اليوم من مشاريع مشبوهة لا يستهدف منطقة بعينها ولا مدينة دون أخرى، بل يطعن في صميم الهوية الوطنية الجامعة ويهدد مستقبل ليبيا بأسره. ومن ثم فإن المسؤولية التاريخية تحتم على الليبيين، شرقًا وغربًا وجنوبًا، أن يتجاوزوا خلافاتهم السياسية الظرفية ويقفوا صفًا واحدًا في وجه هذه المخططات. فالوطن لا يُصان بالانقسام ولا تُحفظ السيادة بالولاءات الضيقة، وإنما بالوعي الجمعي والوقوف المشترك ضد كل ما يعبث بالديموغرافيا الوطنية ويستهدف وحدة الأرض والإنسان. إن ليبيا أكبر من الانقسامات العابرة، وأبقى من التجاذبات، ولن يحميها إلا أبناؤها إذا اجتمعوا على كلمة سواء دفاعًا عن تاريخهم وحقهم في مستقبل يليق بتضحياتهم.

زر الذهاب إلى الأعلى