مقالات الرأي

العودة إلى جذور الصراع

بقلم/ ناجي إبراهيم

لسنا بحاجة إلى استدعاء التاريخ لفهم الحاضر، وحتى الحاضر ليس هو الجسر الذي نعبر عليه إلى المستقبل؛ الحاضر يذهب بنا إلى أماكن كنا نحبها ونرغب بلوغها أو نتطلع إليها، وليست الأقدار وحدها من ترسم معالم الغد، بل معطيات الواقع هي الدرس الأوضح لتبيان الآتي.

من التاريخ قد نستنتج شيئًا واحدًا وهو الجدلية المتعلقة بالتدافع بين الأمم والقارات، ونقرأ فيه أن منطقتنا مجبولة على هذا التدافع، ساحة صراع بالأمس واليوم والغد. القوة وحدها هي التي تحدد نتائج هذا الصراع الذي اتخذ أشكالًا متعددة وعناوين مختلفة؛ منها الغيبي (الوهم) والديني، ومنها الواقعي (المرتبط بالمصالح)، ومنها ما هو فوق الأرض من ممرات ومواصلات ومعتقدات ومراكز دينية، وما هو تحت الأرض من مياه وطاقة. كل ذلك وبعضه جعل من جغرافيتنا أكثر مواقع العالم التهابا واشتعالًا، وما تكاد نطفئ نيرانها حتى تشتعل من جديد.

إذن لا يجب أن نغرق أنفسنا في استدعاء مقاربات لا ترتبط بالأطماع والرغبات الاستعمارية والاحتلالية، ولا أن نذهب بالجري خلف بعض التحولات في أشكال الصراع التي قد تكون — وهي كذلك — أدوات جديدة لتنفيذ مشاريع قديمة. هم لم يتخلّوا يومًا عن أهدافهم، فقط استخدموا أدوات جديدة أو جددوا القديمة لبلوغ أهدافهم.

علينا أن نتيقن هذه المرة من دروس التاريخ أن أهدافهم السيطرة التامة والكاملة على منطقتنا لأسباب كثيرة لم تتوفر لديهم سابقًا، وحتى إذا توفرت فمفاتيحها موجودة عندنا.

أنبه المغتبطين حتى الهيام بالإعلانات الأخيرة من بعض الدول الأوروبية عن حل الدولتين إلى أن هذا المقترح ليس جديدًا؛ فقد كان ضمن قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947 وظل طيّ الكتمان ومعطلًا وفقًا لمعطيات تلك المرحلة. بل نفس البلدان التي تعلن اليوم اعترافها بدولة فلسطينية غير معلوم مكانها هي من عطّلت مشروع الدولة الفلسطينية حتى اليوم، وربما هو العسل الذي يدسون فيه السم الذي سيقتل أي حلم للشعب الفلسطيني في إقامة دولته، ربما نفس الجرح الذي لدغنا منه قبل سبعة وسبعين عامًا.

كفانا استهبالًا؛ باستهبالنا ذهبنا إلى كامب ديفيد لنلقي بكل أوراقنا في جعبة الإدارة الأمريكية التي لم تطعمنا عسلًا، بل جرعتنا سمًا زعافًا. استهبالنا قادنا إلى المشاركة في تدمير العراق في «عاصفة الصحراء» لنحجز كرسيًا في برلين، وعدنا منه كما ذهبنا: بدون فلسطين وخسرنا معها الجولان. لم تكن وادي عربة مختلفة كثيرًا عن كامب ديفيد ومدريد، بل كرّسنا وجودًا نفسيًا للكيان الصهيوني إضافةً إلى وجوده المادي. وفي أكبر استهتارٍ سلمنا آخر بندقية للمقاومة في أوسلو مقابل بيتٍ في رام الله تحرسه دبابات إسرائيلية، فيقتل الفلسطيني بوِشاية ساكن هذا البيت وعلى بعد أمتارٍ منه.

الدول لا تُصنع في منابر الأمم المتحدة ولا تُبنى بالتصريحات. من كان يمنع وبالقوة عودة فلسطيني واحد مهجّر وقيام الدولة الفلسطينية لا يزال يمنعها بالقوة ذاتها. لا يمكن لشعب سلّم سلاحه أن يعيد حقه بالابتسامات والأمنيات فوق المنابر.

كيف لتلك الدول التي نراها اليوم تملأ فضاء الجمعية العامة بصراخ عن الحق الفلسطيني أن تعطيهم هذا الحق وهي فشلت في إيقاف حرب الإبادة والتجويع المرتكبة في قطاع غزة والضفة الغربية؟ بل هي من تقاطر من كل حدب وصوب لتدعم وتؤازر الكيان الصهيوني في حربه على غزة عقب أحداث 7 أكتوبر، وتقدّم له كل أشكال الدعم ومنها السلاح الذي يقتل النساء والأطفال في غزة.

كيف لهم ذلك؟ يقتلوننا بيد ويمدّون لنا اليد الأخرى. من يصدق هذا إما ساذج أو مشارك في ذبح الفلسطينيين. كل ما يجري هو خداع وشراء للوقت وإعطاء الإسرائيليين فسحة من الزمن يجبرون فيها أهل غزة على الهجرة حتى لا نجد شعبًا نطلب له دولة. والتهجير ليس من وحي الخيال، بل هو واقع يجري من خلال تحويل غزة ثم الضفة إلى أماكن غير قابلة للحياة، وقد أعلنه نتنياهو وأعضاء في حكومته وحتى داخل المعارضة، ويدعمه الرئيس الأمريكي ترامب الذي أعدّ خرائط لغزة بعد التهجير.

علينا أن نعود إلى مقدمة الموضوع لنفهم جذور الصراع وأسبابه ومبرراته، الذي لم يبدأ مع قيام الكيان الصهيوني ولن ينتهي حتى بالقضاء عليه. وإذا لم توجد «إسرائيل» سيصنعون لنا «إسرائيل» كما صرّح قادة الغرب أكثر من مرة وفي مناسبات عديدة. وجود الكيان الصهيوني وفر لهم المبرر للعبث بمنطقتنا وتحويلها إلى مخلب قط يستدعي إعداد الخطط والمؤامرات وإشعال الفتن وتعميم الفوضى، وإقامة النظم والحكومات التي تساعدهم على تحقيق مصالحهم وحمايتها.

ويكفي أن نلقي نظرة على الخارطة العربية من المغرب الذي يستضيف أكبر مركز استخبارات أمريكي، حتى قطر التي تستضيف قاعدة عسكرية أمريكية واسعة، لنفهم جذور الصراع ماضيه ومستقبله، والذي لن ينتهي إلا بتكاتف قوى الأمة وتشكيل مقاومة عربية من المحيط إلى الخليج.

زر الذهاب إلى الأعلى