مقالات الرأي

الخصخصة العشوائية للمصارف: تفريط في سيادة الدولة وتهديد للاستقرار المالي

بقلم/ عثمان الدعيكي

يشهد القطاع المصرفي في ليبيا في الآونة الأخيرة موجة متسارعة من عمليات الخصخصة العشوائية وبيع حصص الدولة في بعض المصارف. وهي خطوات يجري تنفيذها في معظم الأحيان بعيدًا عن الضوابط الفنية والدراسات الاقتصادية التي يفترض أن تسبق مثل هذه القرارات الحساسة، الأمر الذي يثير مخاوف جدية بشأن انعكاساتها على الاستقرار المالي وقيمة الدينار الليبي.

فما يجري من عمليات بيع لا يخضع لتدقيق كافٍ في مصادر أموال المشترين، ولا للتحقق من مشروعيتها أو توافقها مع قواعد مكافحة غسيل الأموال. كما أن هذه العمليات تتم في ظل غياب التقييم العادل لقيمة الأسهم، ما يفتح الباب واسعًا أمام بيع أصول استراتيجية بأسعار تقل بكثير عن قيمتها الحقيقية. وتتعاظم خطورة هذا الوضع بالنظر إلى أن معظم الأسهم في المصارف الليبية مملوكة للمحافظ الاستثمارية الواقعة تحت وصاية مؤسسات الدولة، التي تمثل شريحة واسعة من الطبقات الكادحة. وبالتالي فإن أي تلاعب أو تدليس في هذه الأسهم يهدد ليس فقط القطاع المصرفي، بل أيضًا الاستقرار المجتمعي ويزيد من حدة الفوارق بين الطبقات، بعد أن حافظ المجتمع الليبي لعقود على قدر من التوازن.

الأزمة لا تتعلق فقط بغياب التقييم العادل، بل تمتد إلى غياب استراتيجية واضحة لدى السلطات المالية لإدارة ملف الخصخصة. فالتفريط في ملكية الدولة بهذه الطريقة يضعف قدرة المؤسسات الرسمية على ضبط التوازن المالي وحماية العملة المحلية من الانهيار، كما يقوض أسس الشمول المالي الذي يُعد شرطًا ضروريًا لأي سياسة تنموية متوازنة. وفي ظل هذا الفراغ، تتحول المصارف تدريجيًا إلى أدوات بيد رؤوس الأموال الخاصة التي لا ترى فيها سوى وسيلة لمراكمة الأرباح، ما يزيد احتمالات المضاربة المالية والضغط على قيمة الدينار الليبي.

وتنعكس هذه السيطرة غير المنضبطة على أرض الواقع من خلال المضاربات الواسعة التي يشهدها السوق الموازي، سواء على العملات الأجنبية أو على الاعتمادات المستندية أو حتى على السيولة النقدية. فغياب السيطرة الكاملة للدولة على القطاع المصرفي سمح بتسرب النفوذ لصالح رؤوس أموال راكمت ثروات طائلة من خلال استغلال هشاشة الاقتصاد الوطني. وزاد الأمر سوءًا غياب الرقابة الفعلية على أعمال التحويلات والاعتمادات المستندية، ما جعل القطاع المصرفي في كثير من الحالات شريكًا مباشرًا في عمليات غسيل أموال تجري تحت غطاء رسمي أو بتواطؤ ضمني. هذه الممارسات لا تؤدي فقط إلى استنزاف العملة الصعبة وتراجع قيمة الدينار، بل تهدد أيضًا سمعة القطاع المصرفي الليبي على المستوى الدولي وتضعف فرص دمجه في النظام المالي العالمي.

وعند النظر إلى تجارب بعض الدول العربية، يتضح أن تحييد المصارف الكبرى عن الخصخصة يمثل خيارًا استراتيجيًا لحماية السيادة النقدية وضمان الاستقرار المالي. ففي مصر، جرى استثناء “البنك الأهلي المصري” و”بنك مصر” من برامج الخصخصة حفاظًا على التوازن في السوق النقدية. وفي المغرب، احتفظت الدولة بحصص مؤثرة في بنوك كبرى مثل “التجاري وفا بنك” و”البنك الشعبي” باعتبارها أدوات استراتيجية لدعم التنمية. وحتى الأردن، رغم انفتاحه على الاستثمارات الأجنبية، أبقى على حصص سيادية في بعض مصارفه المحلية لضمان الاستقرار المالي وعدم ترك القطاع تحت رحمة المضاربات.

تؤكد هذه التجارب أن ملكية الدولة في القطاع المصرفي ليست ترفًا سياسيًا ولا خيارًا ثانويًا، بل هي ضرورة ملحّة في الدول التي تمر بظروف اقتصادية وسياسية معقدة. ومن هنا، فإن حماية الدينار الليبي وصون الاستقرار المالي يتطلبان وقف أي عمليات خصخصة عشوائية إلى حين إعداد استراتيجية وطنية متكاملة تقوم على الشفافية والتقييم العادل، وتضمن أن تبقى للدولة ملكية كاملة في عدد من المصارف الرئيسية، بما يكفل استمرار التوازن والشمول المالي. كما يتعين أن تُربط السياسات المصرفية بالقطاعات الإنتاجية، بحيث يتم توجيه التمويل لدعم التنمية الحقيقية بدلًا من الانجرار وراء المضاربة قصيرة الأجل التي تفتك بالاقتصاد وتضعفه أمام الأزمات.

إن التعامل مع القطاع المصرفي باعتباره أداة سيادية لا يقل أهمية عن إدارة الموارد الطبيعية والسياسات المالية. بل إن الحفاظ على حصة الدولة فيه يجب أن يكون محور أي رؤية اقتصادية جادة تسعى إلى الحفاظ على ما تبقى من قوة الدينار الليبي ومنع انزلاق الاقتصاد الوطني نحو أزمات أعمق. فما يجري اليوم من خصخصة غير مدروسة ومضاربات في السوق الموازي ليس سوى مؤشر على هشاشة الرقابة وتراجع سيادة الدولة، وهو ما يستوجب وقفة عاجلة تعيد الاعتبار للقطاع المصرفي بوصفه ركنًا من أركان السيادة الوطنية وأداة رئيسية لتحقيق الاستقرار والتنمية.

زر الذهاب إلى الأعلى