نصرٌ لا يُغتال

بقلم/ ناصر سعيد
تمرُّ علينا ذكرى أليمة، ثقيلة كالجبال، لكنها عظيمة كصمود غزة، ذكرى لا تحمل في طياتها ألمًا فحسب، بل تحمل دمًا كتبَ ملحمةً جديدة من ملاحم المقاومة والكرامة.. في مثل هذا اليوم، السابع والعشرين من سبتمبر 2024 سقط جسدُ السيد، لكنه أقام من سقوطه ألفَ قمّةٍ شامخة، اغتالته آلة الغدر الصهيونية في ضاحية بيروت الجنوبية، لكنها لم تستطع اغتيال مشروعه، ولم تنتزع من قلوب الملايين سيرة الرجل الذي أصبح أسطورةً في زمن الأبطال النادرين.
لقد كان الشهيد السيد حسن نصر الله أكثر من زعيم سياسي، كان تجسيدًا حيًا للإرادة التي لا تنكسر، والعقل الذي لا يُهزم، والقلب الذي يخفق بحبٍّ لأمته ووطنه، كان الرجل الذي حوَّل المقاومة من فكرة إلى واقعٍ ملموس، يحميه سلاح الحق، يسير بوعي وإصرار على الدرب درب النصر أو الاستشهاد، رافضًا المساومة، مُقدِّمًا التضحيات الجسام في سبيل قضية العروبة والإسلام، مدافعًا عن لبنان وسوريا وفلسطين، وقبل كل شيء، عن كرامة أمةٍ رفضت الانحناء، وفي ذكراه، لا نسعى فقط إلى رثائه، بل إلى استخلاص العبر من مسيرته النضالية، وتذكير أنفسنا بأن سياسة الكيان الصهيوني المعلنة هي تصفية كل من يهدد وجوده ومصالحه، ما يعني أن الشهيد البطل كان يشكل تهديدًا وجوديًا حقيقيًا له، فكانت سهام الغدر هي سلاح الجبان الذي لا يقوى على المواجهة الشريفة.
في زمن انحنى فيه الكثيرون، بقي هو شامخًا، في لحظات التهديد والوعيد، كان صوته هو الصوت الجريء الذي يهزُّ عروش المحتل وأذياله، لم يخشَ تهديدًا، ولم يستسلم لوعيد، كان يردُّ على العدوان بالضربات الموجعة، وعلى الغارة بالغارة، لقد أعاد للعرب والمسلمين كبرياءهم المفقود، وعلّمهم أن لغة القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو، كان يقول: “إذا أرادوا الحرب، فليكونوا على استعداد لخسارة كل شيء”، فجعل من “معادلة الردع” عقيدةً راسخة، يحسب لها العدو ألف حساب.
اجتمع في هذا الرجل الفذّ ما ندر أن اجتمع في قائد: عقلٌ استراتيجي حادّ، يقرأ الخريطة السياسية والعسكرية بدقة، وقلبٌ إنساني رحيم، يدمى لألم أي طفلٍ في غزة أو أي عائلةٍ في الجنوب، كان في خطابه السياسي قائدًا محنكًا، وفي خطابه الديني واعظًا مؤثرًا يهز المشاعر، كان يجمع بين حكمة السياسي وروحانية العالم، وشجاعة المقاتل.
لقد حوّل المقاومة إلى “مدرسة”، مدرسة تخرّج فيها رجالٌ اعتبروا الشهادة في سبيل الله والوطن أسمى أمانيهم، كان قائدًا لم يشأ أن يكون في الصفوف الخلفية، بل كان في المقدمة دومًا، يشارك رفاقه همومهم، ويقاسمهم خطرهم، حتى كتب الله له بخاتمة الشهداء.
اليوم، بعد عامٍ على غياب جسده، لا نرثي رجلًا، بل نرثي ظاهرةً كبرى، فالدم الطاهر الذي سُفك في ضاحية بيروت لم يكن إلا وقودًا أشعل الحماسة في نفوس الأجيال الجديدة.
مضيتَ يا شهيد الحقّ وكأنك نُسِجت من معدنٍ لا يلين، ومن روحٍ لا تعرف الخوف ولا المساومة، في زمنٍ تهاوى فيه الكثيرون تحت ركام الهزيمة، كنت أنت الصخرة التي تحطّمت عليها أمواج الانكسار، والنبراس الذي أضاء عتمة الخذلان، والصوت الذي لم يخفت في سوق المساومين على الدماء والقضايا.
أيها الشهيد.. أنت الحاضر في كل معركة، في كل زنزانة تصرخ فيها الحرية، في كل حجر يطير من يد طفلٍ بوجه الدبابة، في كل بندقية تقاوم الاحتلال، رحلت جسدًا، لكنك بقيت هوية، بقيت وعدًا، بقيت بوصلة لا تنحرف.
التحية للشهيد البطل السيد، الذي نَحَتَ اسمه بأحرف من نور ودمًا بين قادة الأمة العظام في مسيرة الكفاح العربي من أجل التحرير والتقدم، سلامٌ عليك يوم وُلدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيًا.