مقالات الرأي

الألسنية العامة بين الفلسفة والمنطق المداخلة الأولى: في اللاهوت 11 

بقلم/ مهدي امبيرش 

ربما يستغرب بعض الذين يتابعون هذه المداخلات من الحديث عن اللاهوت والإنسان واللسانيات، إلا أننا نرى أن مقاربة السؤال الذي تم طرحه حول ما الإنسان وأن وصول هذا المخلوق من تراب وماء إلى الطور الأخير أي إلى طور الإنسان كان يقتضي بداهة أن نقف عند السؤال الكبير الفلسفي: ما الإنسان؟ الذي قدمنا فيه بعض المقاربات ثم انتقلنا إلى خصيصة الروح التي نفخها الله في الإنسان فصارت له القدرة على أن يتكلم، والكلام ليس التلفظ، بل الكلام الذي واحده كلمة، هو مشيئة وإرادة، أي قدرة على الخلق والإبداع، ولهذا قلنا إن الأزمة الأولى التي وجدت مع آدم وزوجه بدأت من وعيه أنه محدود، ولهذا كان يسعى إلى إدراك المطلق في الزمان والمطلق في التملك، وهو ما أدى به إلى التعري والانفضاح أمام نفسه وأمام زوجه وهي كذلك، لأن القرآن الكريم لم يحمل آدم المسؤولية، بل إنهما اقتربا معا من الشجرة وأن إبليس وسوس إليهما الاثنين، وأن الهبوط لم يكن كما يقول اللاهوت النصراني أنه سقوط من السماء، بل هو هبوط من الجنة، وأن الجنة كما ذكرنا مرارا هي الربوة العالية التي لا تسمع فيها لاغية، وهنا يستقيم هذا مع مصطلح الهبوط وليس السقوط. 

إذًا عندما قلنا إن السماء دخان وإن هذه الثنائية بل قول بالسماء والأرض هو فهم خرافي، وأن السماء كما علمنا الحق هي دخان وأن الكون سيعيده الله إلى النشأة الأولى أي ستنشق السماء وستطوى ثم تعود دخانًا كما بدأ الله الخلق يعيده، وفي سوره الدخان توضيح لهذه الحقيقة وأن مصير الإنسان مثل وجوده سيكون على الأرض وأن الجنة على الأرض كما في الآية قبل الأخيرة في سورة الزمر. 

إذًا ما علاقة اللسان واللغة بهذا القول أو هذا اللاهوت الذي أوجد هذه الثنائية التي اضطرّ معه التفكير اللاهوتي إلى البحث عن الوسيط الذي يملأ الفراغ بين السماء والأرض، وقد ذكرنا أن الفكر اللاهوتي الإغريقي قد قدم لنا مخلوقًا سماه هرمس لا يزال اسمه في القاموس الأوروبي، وهذا المخلوق وفق هذا التصور الخاطئ يكون بمثابة نصف الإله أي أن نصفه العلوي إلهي ونصفه السفلي بشري، وأن من مهمته أن ينقل أوامر الإله السماوي الذي يتحدث لغة رمزية إلى الأرض.

إن هذا التصور فرض هذه الثنائية والوسيط بين (الثالوث) على دراسة اللسان واللغة مثل المعارك القديمة بين الاسم والفعل، وقد رأينا في محاورة كراتيلوس لسقراط التي صاغها أفلاطون يناقش الفرق بين الاسم المقدس والاسم البشري أي أن الإله أو الآلهة تطلق الأسماء المقدسة في حين أن البشر يطلقون أسماء بشرية، وقد سبق أن ذكرنا أن أول تعليم تلقاه آدم عليه السلام أنه علم العلاقة بين الاسم والمسمى.

وإذا استعرضنا كل نظريات اللسان واللغة سوف نراها لا تخرج عن هذا الثنائية، فيكون للاسم درجة أرفع من الفعل، وربما هذا هو الذي أوجد الصراع بين اللاهوت الأفلاطوني السقراطي الذي يقول إن الأسماء المفارقة في السماء هي التي تعبر عن الحقيقة، وإن الأسماء البشرية هي وهم الحقيقة، ولهذا احتدم الصراع بين من عرفوا بالسفسطائيين الطبيعيين الذي عاشوا في آسيا الصغرى وبين سقراط وأفلاطون دعاة التجريد، ومن ثم فإن ما يراه سقراط وأفلاطون على الأرض ليس إلا وهمًا، أو أنه ظل الحقيقة.

وإذا كان لها من مهمة فإنها تدفعنا إلى التفكير في عالم الكمال في السماء، وهذا ما دفع أفلاطون في المحاورة السابقة إلى تقديس الاسم الذي نراه يتكرر في محاوره السفسطائي، وبداهة سيكون الخطاب السقراطي الأفلاطوني خطابا أرستوقراطيا مقابل الخطاب الطبيعي للدهماء أو السواد، ومن ثم يرفض سلطة الدهماء أو الديموقراطية كما يلعب أرسطو دور الوسيط عندما أنزل المثل الأفلاطونية إلى الأرض، وبذلك مهد أرسطو للفلسفة الطبيعية أو الوضعية في فرنسا، كما اعتبر سقراط وأفلاطون أساتذة المثالية الألمانية، ومن ثم فإن الأزمة القديمة أو اللاهوت القديم هو ما يحكم أوروبا اليوم والذي سنقارن به منهج التفكير العربي وتمثلاته من خلال اللغة.

زر الذهاب إلى الأعلى