القرار رقم (7).. حين اختاروا كسر الوطن عبر بوابة بني وليد

بقلم/ فرج الشقار
منذ عام 2011، ومع بداية ما سُمي بثورة فبراير، بدأت ليبيا تنزلق تدريجيًا نحو المجهول. ما وُصف حينها بـ”حراك شعبي” تبيّن لاحقًا أنه كان غطاءً لعملية دولية معقدة، نُفذت بأدوات محلية، وأذرع أجنبية، وبغطاء جوي وقصف عسكري كثيف من حلف الناتو. العملية التي أطاحت بالنظام الجماهيري لم تكن ناتجة عن إرادة داخلية خالصة، بل كانت تدخلاً صريحًا في شؤون البلاد، تحت مسمى ودريعة “حماية المدنيين”، بينما الواقع كان تدمير الدولة بكل مكوناتها.
لقد كانت المؤامرة واضحة في أهدافها: إسقاط النظام، تدمير الجيش، تفكيك مؤسسات الدولة، وتعبيد الطريق أمام الجماعات المؤدلجة والمليشيات المسلحة لتتقدم الصفوف. ووسط هذا الانهيار الممنهج، اختارت مدينة بني وليد أن تكون على الضفة الأخرى من المشروع المدعى وقتها بالربيع العربي، ودفعت ثمنًا باهظًا لأنها قررت الدفاع عن الوطن، وليس عن شخص أو نظام.
قاتلت بني وليد ضد عدوان خارجي واضح، قادته قوات الناتو، وتحالفت معه قوى داخلية أعماها الحقد، وأغراها وهم السلطة. رفضت المدينة الانخراط في هذا المسار، ورفعت صوتها عاليًا من أجل ليبيا الموحدة، الرافضة للتدخل، والرافضة لتحويل البلاد إلى غنيمة موزعة بين أمراء الحرب.
وبعد سقوط البلاد في قبضة المليشيات، لم يكن مستغربًا أن تكون بني وليد أول مدينة تُستهدف رسميًا. ففي سبتمبر 2012، صدر القرار رقم (7) عن المؤتمر الوطني العام، وكان ذلك إيذانًا بتحرك عسكري ممنهج ضد المدينة. القرار لم يكن إجراءً قانونيًا، بل وثيقة سياسية مغلفة بغطاء شكلي، تستبطن في داخلها نوايا انتقامية، وممارسات إقصائية، وجهوية، وقبلية.
القوات التي تحركت ضد المدينة لم تكن تمثل الدولة، بل كانت مليشيات مسلحة تنتمي لمناطق وتنظيمات معينة، تحركها غنائم الحرب، ويدفعها الحقد تحت شعار الجيش الوطني. ما جرى في بني وليد من قتل، وتهجير، وقصف، كان جريمة موثقة لن تسقط بالتقادم، ولن تغيب عن ذاكرة الوطن فهو وسمة عار في تاريخ ليبيا، تمامًا كما جرى لاحقًا لمدن أخرى، مثل ورشفانة، ترهونة، وتاورغاء، التي نالت نصيبها من التهجير والدمار على يد نفس المليشيات التي توحدت في لحظة على بني وليد، ثم انهارت لاحقًا في صراعاتها الداخلية.
المؤتمر الوطني، الذي أصدر القرار، لم يكن يعبر عن إرادة شعبية حرة، بل كان محكوما حينها بسيطرة تحالف الإخوان المسلمين وتنظيم الجماعة الليبية المقاتلة، الذين استغلوا دعم الناتو لفرض واقع سياسي بقوة السلاح، لا عبر صناديق الاقتراع أو التوافق الوطني.
لكن الحقيقة لا تبقى مخفية إلى الأبد. بعد مرور ثلاث عشرة سنة، بدأ التاريخ يُنصف بني وليد، ويكشف تدريجيًا ما حذرت منه منذ البداية. فالبلاد لم تعرف الاستقرار منذ ذلك الحين، بل غرقت أكثر فأكثر في مستنقع الفوضى، وتحولت إلى ساحة صراع دولي، فيها المرتزقة، وفيها القواعد العسكرية الأجنبية، وفيها التدخلات الإقليمية المتضاربة، حتى باتت ليبيا شبه محتلة من أطراف متعددة، كل منها يدّعي الشرعية ويفرض النفوذ بالقوة.
وفي المقابل، بقيت بني وليد محافظة على خطها الوطني، لم تتورط في الحروب، ولم تُنَصّب مليشياتها على الناس، بل نادت منذ اليوم الأول بضرورة العودة للدولة وبناء الجيش و الشرطة وتوحيد كل المؤسسات، ورفضت منطق التغلب والغنيمة. لم يكن صمودها عنادًا، بل وعيًا وطنيًا مبكرًا بمآلات الأمور، وهذا ما أثبتته السنوات التي تلت القرار المشؤوم.
ورغم فداحة ما جرى، فإن المدينة لا تطالب اليوم بانتقام، بل تطالب بعدالة حقيقية. لا تسعى للثأر، بل للمحاسبة. وهنا يجب الإشارة بوضوح إلى أن مجلس النواب الليبي، قد اصدر قرار بتجريم قرار رقم 7 ووصفه بالقرار الضالم على المدينة، في اعترف صريح بأن القرار، لا يستند إلى أي أساس قانوني أو وطني، بل كان كارثة سياسية فتحت أبواب الجحيم، وأطلقت يد المليشيات لتعبث بمصير المدن الليبية.
وبناء على هذا الاعتراف، فإن المطالبة اليوم ليست عاطفية ولا شخصية، بل قانونية بحتة. نطالب النائب العام الليبي بفتح تحقيق رسمي في هذا الملف، وملاحقة كل من شارك في إصدار القرار وتنفيذه، من القيادات السياسية التي شرعنته، إلى القاعدة المليشياوية التي نفذته. نطالب بإصدار مذكرات قبض قانونية بحق الجناة، بناءً على أدلة موثقة وشهادات حية، بعيدًا عن تأثيرات المليشيات التي لطالما عطّلت العدالة، وتدخلت في عمل القضاء.
نحن لسنا دعاة حروب، ولا دعاة فتنة، بل نؤمن أن القانون هو الفيصل، وأن لا أحد يجب أن يكون فوق المحاسبة، مهما كان موقعه، أو انتماؤه، أو جهته. وإذا كان البعض لا يزال يعتقد أن الزمن كفيل بطمس الجرائم، فإن العدالة الحقيقية لا تسقط بالتقادم، والتاريخ لا يرحم المتخاذلين.
إن بني وليد، وهي تحيي هذه الذكرى الثالثة عشرة لقرار الظلم، لا تبحث عن تعاطف، ولا تنتظر شهادة من أحد، بل تجدد تمسكها بموقفها الوطني، وتطالب فقط بأن تأخذ العدالة مجراها، وأن تعود للدولة هيبتها، بعد أن ذاب تأثير المليشيات بسبب اقتتالها بين بعضها البعض.
التاريخ قد لا يُكتب دائمًا في وقته، لكنه في النهاية يُكتب. وفي صفحة بني وليد، هناك سطر واضح لا غبار عليه: هذه مدينة وقفت صامدة، حين بايع البعض الفوضى.