الألسنية العامة بين الفلسفة والمنطق ..المداخلة الأولى: في اللاهوت 10

بقلم/ مهدي امبيرش
في المداخلات السابقة، سواء في فلسفة اللسان العربي أم مقاربة الإجابة عن السؤال الماهوي، ما الإنسان؟ أو اللاهوت، يكون المسعى للبحث في محاولة لتحديد ملامح مدرسة في الفلسفة العربية، متميزة بمنهج تفكيرها، معطيات هذا المنهج وتمظهراته أن البحث في علم الإنسان العربي، هو في الوقت نفسه نقد لما يسمى بالأنثروبولوجيا والاثنوجرافية وما ترتب عليهما في مدارس الغرب الأوروبي، هنا يكون الربط بين منهج التفكير العربي المؤسس على فهم للإنسان بعامة كما علمنا خالقه تعالى، وفي ارتباط الإنسان بعملية البيان، وأن الإنسان خلق في أحسن تقويم، ومن ثم يكون اللسان غير ذي عوج، أي أن هناك ربطًا محكمًا بين الإنسان واللسان، وإذا كان هناك من اختلاف فهو اختلاف في الألسن، وأن اللغات هي وسائط لعبور الأفكار التي ينتجها الذهن اهتداء بمنهج التفكير، ومن ثم فليست محلا أو مغالاة أن نقول إن اللسان العربي هو لسان إنساني ما دام الله تعالى حكم له أنه لسان مبين وأنه غير ذي عوج.
هنا يمكن لمن تابع هذه المداخلات أن تتكشف له بسهولة طريقة معالجتنا المتنوعة لمقاربة سؤال ما الإنسان وإلى أزمة اللاهوت وأثره على منهج التفكير، خاصة في إحداث الشرخ المرعب بين الفكر والتعبير عنه والذي كان ولا يزال سببًا وراء ثنائية تبرر الصراع وقتل الملايين من البشر والفساد والإفساد في الأرض.
وحتى لا نلقي القول على عواهنه فلا بد أن نتابع من خلال قراءة تاريخ الفكر البشري أن نقدم شواهد على ذلك. دعونا أولا باختصار نؤكد على الحقيقة التاريخية أنه ليس بداية التاريخ من سومر فحسب، بل تاريخ الفكر كذلك، لا نجد في سومر هذه الثنائية بين السماء والأرض، فسومر المستقرة على ضفتي نهري دجلة والفرات حيث الأرض والماء، التراب خلق الإنسان، والماء الحياة، لا نجد ثنائية السماء والأرض، كما أن التأليه في سومر لا يأخذ المفهوم الدارج في الدين، بل الإله انكي مثلا هو بطل قام بأعمال متميزة، فهو الذي علم الناس صناعة أدوات الزراعة وتصريف المياه ومواسم الحرث، وفي سومر يبدأ أول قانون في الزراعة بحمورابي كما في سومر، وبهذا الاستقرار والزراعة ستبدأ أول أطروحة للدورات التأريخية كما دورات الفصول والمراسم، فتموز أو ديموزي الذي تقول الأسطورة إنه سكن عالم الموتى تحت الأرض وأن غيابه سبب حزنًا شديدًا للناس، حيث كانوا يقيمون مراسم العزاء والبكائيات، إلى الحد الذي إلى الآن قلب آلهة الموتى ارشكيجال، التي سمحت أن يخرج مرة في كل عام فتورق الأشجار وتثمر وتزهر النباتات وتسمن الماشية وتعم الأفراح والأعراس، هنا يأتي تفسير فصل الربيع، الذي اقتبسه الإيرانيون فصاروا يحتفلون في فصل البهار أو الربيع بولادة ثانية لزرادشت.
هذا الاستقرار يكون مجتمع الزراعة الذي ينتقل بصورة عملية إلى المدن فتكون أول مدينة في تاريخ البشرية قد وجدت هناك، وتكون مدينة أوراك، وتواري المدن يمثل بداية تأسيس الدولة وأسلوب الحكم، ويكون قلقامش البطل الأسطوري قائد لي أوراك وهو بمثابة نصف إله وقصة الصراع مع انكيدو البشري قصة تحتاج إلى توقف وتأمل لنستخلص منها ملامح للإنسان العربي الأول مع تناول حضارة مصر وأوجه التشابه بين حضارة سومر وحضارة مصر ومنهج التفكير في الحياة والزمن ومواجهة الموت وفكرة الخلود مقابل فلسفة العدمية والنهايات في الفكر الهندي حيث الصوفية العدمية والحلولية التي انتقلت إلى فارس، كما بدأ من هذا المزيج السومري المصري الهندي الفارسي مركب التفكير الإغريقي اليوناني، حيث بعدها سنتناول من خلال الثنائية الخلاف الحاد بين المفكرين الطبيعيين من الإغريق في آسيا الصغرى والمدرسة الأيونية، والمثالية في المدرسة الايلية خير من يمثلها سقراط وأفلاطون ثم الوسيط التأويلي من خلال هرمس القديم ومن خلال محاولة أرسطو التي لا تزال تحكم مسار وصراع المدارس الأوروبية المعاصرة.