مقالات الرأي

إلغاء سعر الفائدة وأزمة القطاع المصرفي في ليبيا: بين قيود التشريع وأعباء الاقتصاد

بقلم/ عثمان الدعيكي

منذ أن أصدر المؤتمر الوطني العام قانون إلغاء الفوائد المصرفية مطلع العقد الماضي، دخل القطاع المصرفي الليبي واحدة من أعقد أزماته الهيكلية. فالقانون الذي جاء بدوافع شرعية، قُصد به الانسجام مع القيم الدينية، لكنه عمليًا أدى إلى تقييد أدوات السياسة النقدية وإضعاف قدرة المصارف على أداء أدوارها الأساسية في تمويل مشروعات التنمية والحفاظ على استقرار العملة المحلية في مواجهة المؤثرات الخارجية.

يُجمع خبراء الاقتصاد على أن سعر الفائدة يمثل الأداة الأبرز بيد المصارف المركزية للتحكم في السيولة ومواجهة التضخم وتوجيه الائتمان والحفاظ على استقرار سعر الصرف. ومع إلغاء هذه الأداة، فقد مصرف ليبيا المركزي وسيلته الرئيسية لمواجهة تقلبات أسعار النفط، وهو المصدر شبه الوحيد للعملة الصعبة، وكذلك التصدي للتضخم وارتفاع الأسعار وانهيار قيمة الدينار، إضافة إلى مواجهة التحديات التي أفرزتها الأزمات السياسية والأمنية المتلاحقة. ولجأ المركزي في ظل غياب هذه الأداة إلى إجراءات استثنائية مثل تغيير العملة أو فتح نافذة شراء العملات الأجنبية، بالإضافة الى إقرار رسم على شراء العملات الصعبة وهي خطوات لم تحقق الاستقرار المطلوب وظلت بلا جدوى على المدى الطويل.

كما أدى إلغاء سعر الفائدة إلى حرمان المصارف من مصدر دخلها الأساسي وهو العائد على القروض، ما دفعها إلى فرض رسوم وعمولات على خدمات كان يفترض أن تكون مجانية مثل فتح الحسابات وإصدار دفاتر الشيكات وتنفيذ التحويلات. ومع مرور الوقت، انعكس ذلك على ثقة المواطن، فبدأ يحجم عن إيداع مدخراته ويبحث عن بدائل خارج الجهاز المصرفي.

ومع حلول عام 2017، انفجرت أزمة السيولة في البلاد، واصطف المواطنون في طوابير طويلة لسحب مبالغ محدودة لا تكفي حاجاتهم اليومية. ووفق بيانات مصرف ليبيا المركزي، بلغت الودائع تحت الطلب أكثر من 80% من إجمالي الودائع بحلول عام 2019، في حين تراجعت الودائع لأجل إلى أقل من 15%، وهو ما يعكس فقدان العملاء الثقة في قدرة المصارف على توفير أموالهم عند الحاجة.

هذا الوضع شلّ دور الجهاز المصرفي في تمويل عملية التنمية وإعادة الإعمار. فالمصارف التي يفترض أن تموّل مشروعات الإسكان والبنية التحتية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة تحولت عمليًا إلى مؤسسات صرافة لا يتعدى نشاطها بيع العملة الأجنبية وفق حصص يحددها المركزي. وفي ظل اقتصاد يعتمد على النفط بنسبة تفوق 95% من الإيرادات، أصبح غياب قطاع مصرفي قوي قادر على تمويل التنويع الاقتصادي عاملًا أساسيًا في هشاشة البنية الاقتصادية. وقد انعكس ذلك في تذبذب حاد لمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، حيث سجل انكماشًا بنسبة 31% عام 2020 ثم نموًا مؤقتًا بلغ 55% عام 2021 وفق بيانات البنك الدولي، قبل أن يعود إلى مستويات متواضعة في السنوات التالية.

إلى جانب ذلك، توسعت السوق الموازية للعملات الأجنبية مع تفاقم القيود المفروضة على السحب والإيداع، ومع محاولات المركزي التحكم في العرض النقدي. وقد نشأت أسواق متوازية للعملة بالدينار بطبعات مختلفة قديمة وحديثة، وتفاوتت أسعار الصرف بين الرسمي والموازي بفجوة تجاوزت 200% في بعض الفترات. فعلى سبيل المثال، بينما ظل السعر الرسمي ثابتًا عند 4.48 دينار مقابل الدولار منذ 2021، قارب سعر السوق الموازية ثمانية دنانير في 2025، ما فتح المجال أمام شبكات مضاربة راكمت ثروات ضخمة على حساب استقرار الاقتصاد.

المفارقة أن القانون الذي استند إلى مبررات شرعية لم يحقق الهدف المرجو، إذ يرى الكثير من الخبراء وعلماء الدين أن المصارف لجأت إلى بدائل شكلية للعائد على القروض عبر رسوم إدارية مرتفعة أو صيغ مرابحة مبالغ فيها، لتصبح أقرب إلى الربا المقنّع منها إلى المعاملات الإسلامية الحقيقية. ولم يتحقق المقصد الشرعي، بل ازدادت الأعباء على المواطن الذي يواجه تكاليف مصرفية أعلى وارتفاعًا في الأسعار نتيجة تدهور قيمة الدينار.

ويكشف تقرير البنك الدولي لعام 2023 عن حجم الأزمة بوضوح، إذ لم تتجاوز نسبة الشمول المالي في ليبيا 20% من عدد المواطنين البالغين، وهي من أدنى النسب في المنطقة، ما يعكس ضعف ثقة الجمهور في الجهاز المصرفي. كما ارتفع معدل التضخم إلى نحو 26% عام 2017 أثناء ذروة أزمة السيولة، قبل أن يتراجع نسبيًا مع بعض الإجراءات النقدية، لكنه ظل عند متوسط 8 إلى 10% في الأعوام الأخيرة. ويؤكد صندوق النقد الدولي أن غياب إصلاحات هيكلية في القطاع المالي يعوق استدامة الاستقرار النقدي ويُبقي الاقتصاد عرضة لصدمات خارجية.

ولمواجهة هذه التحديات، تبدو إعادة النظر في التشريعات التي كبّلت أدوات السياسة النقدية خطوة لا مفر منها، مع ضرورة البحث عن بدائل تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية دون أن تفقد المصارف قدرتها على التمويل والإقراض. وقدمت تجارب مثل ماليزيا والسودان صيغًا مصرفية إسلامية مبتكرة كالصكوك والتمويل بالمشاركة يمكن الاستفادة منها في السياق الليبي. كما أن تعزيز الحوكمة وإصلاح القوانين وتوسيع قاعدة الائتمان الموجه للأنشطة الإنتاجية تمثل ركائز أساسية لإنقاذ القطاع المصرفي من حالة الجمود.

لقد شكّل قانون إلغاء سعر الفائدة نقطة تحول فارقة في مسار المصارف الليبية، لكنه لم يقدم البدائل الفعّالة التي تحفظ التوازن بين الالتزام بالضوابط الشرعية وضمان استقرار الاقتصاد. والنتيجة نظام مصرفي مشلول ومواطن مثقل بالأعباء، واقتصاد يعاني أزمات سيولة وسوقًا موازية متقلبة. والدرس الأبرز أن أي إصلاح مالي لن ينجح ما لم يستند إلى رؤية متكاملة تراعي القيم الدينية وتستجيب في الوقت ذاته لمتطلبات الاقتصاد الحديث، بما يحفظ استقرار الدينار ويضمن معيشة كريمة للمواطن.

زر الذهاب إلى الأعلى