لغز الـ14 مليار دولار: بين التجميد والنهب في الاستثمارات الليبية

بقلم/ عثمان الدعيكي
منذ سقوط النظام الوطني في ليبيا بفعل التآمر الدولي والتدخل العسكري لحلف الناتو في عام 2011، تحولت البلاد إلى ساحة للفوضى السياسية والانقسام المؤسسي، ومع انهيار الدولة أصبحت الأصول والاستثمارات الليبية في الخارج – التي قاربت الــ 80 مليار دولار قبل 2011 – عرضة للتجميد والنهب. ورغم أن قرارات مجلس الأمن نصت على تجميد معظم هذه الأموال لحمايتها، فإن تقارير دولية أكدت أن مليارات الدولارات من عوائدها تبخرت في ظروف غامضة، وهو ما أثار جدلًا واسعًا حول مصيرها.
وتشرف المؤسسة الليبية للاستثمار (LIA) على شبكة واسعة من المحافظ والصناديق والشركات العقارية والمالية حول العالم، غير أن تقارير لجنة الخبراء الأممية بينت أنها تعرضت خلال الأعوام بين 2014 و2017 لمحاولات اختراق وضغوط عبر تعيين إدارات موازية وادعاءات بالشرعية من أطراف سياسية متنازعة. وفي هذا السياق برزت حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة “خليفة الغويل” التي أعلنت تأسيس هيئة بديلة للاستثمار الخارجي سعت إلى السيطرة على بعض الأصول غير المجمّدة، لتقدّر مصادر إعلامية محلية ودولية أن حجم الأموال التي جرى التلاعب بها أو اختفاؤها عبر هذه الهيئة بلغ نحو 14 مليار دولار، في واحدة من أكبر قضايا الفساد المالي بعد 2011.
ولم يقتصر العبث بالأموال الليبية على الداخل، ففي بلجيكا دخل الأمير “لوران”، شقيق ملك بلجيكا، في نزاع مع الدولة الليبية بعد الإطاحة بنظامها الوطني، مطالبًا بتعويضات عن مشروعات بيئية وقّعها مع مؤسسات ليبية في السابق. وقد فتح هذا النزاع ملف الأصول الليبية المجمّدة في بروكسل، حيث تودع مليارات الدولارات في بنك Euroclear، ليكشف تحقيق برلماني في عام 2018 أن نحو 10 مليارات يورو من فوائد الأرصدة المجمّدة اختفت بين 2011 و2017. وأكدت تقارير صحفية، منها ما نشرته “رويترز ” و”Le Vif” البلجيكية، أن الفوائد لم تكن مشمولة بقرارات التجميد الأممية، وهو ما سمح بتسييلها عبر قنوات الفساد بالتواطؤ مع حكومة “الغويل”. ورغم أن الأمير “لوران” لم يُتهم مباشرة بالفساد، فإن قضيته شكلت غطاءً سياسيًا وقانونيًا استُغل للتصرف بعوائد الأموال، في مشهد يتقاطع مع ما جرى داخل ليبيا، حيث تحولت الثغرات القانونية إلى منفذ لاقتسام الغنائم على حساب الشعب الليبي.
هذا التواطؤ الخارجي والعبث الداخلي ازداد خطورة في ظل بيئة سياسية واقتصادية خصبة للفساد بعد فبراير، حيث باتت ليبيا واحدة من أكثر دول العالم فسادًا، إذ تحتل مرتبة متأخرة جدًا في مؤشر مدركات الفساد 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، فيما تشير تقديرات خبراء الاقتصاد محليًا إلى أن البلاد خسرت منذ 2011 ما بين 300 و400 مليار دولار نتيجة الفساد وسوء الإدارة وتبديد الموارد. بينما يواجه المواطن الليبي يوميًا أزمات السيولة وانقطاع الكهرباء ونقص الدواء، تستنزف مليارات الدولارات في الخارج، لتبدو المفارقة صارخة: دولة غنية بالنفط غير قادرة على الوصول إلى أموالها المجمّدة أو الاستفادة من عوائدها بسبب الانقسام السياسي والصراعات الداخلية.
ورغم أن الوضع القانوني للأصول الليبية ما زال خاضعًا لقرارات مجلس الأمن التي أبقت على تجميد الأرصدة الأساسية، فإن العوائد لم تُشمل بهذا التجميد، وهو ما أتاح ثغرة استغلها مسؤولون ليبيون وجهات أجنبية على حد سواء. ورغم التحقيقات البرلمانية في بلجيكا والتحذيرات الأممية، لم تُصدر المحاكم الدولية أو الأوروبية إدانات نهائية بحق شخصيات محددة، ليظل الملف عالقًا بين الاتهامات السياسية والفراغ القانوني. وفي الداخل، لم تقدم أي حكومة – سواء في طرابلس أو الشرق – كشف حساب شفاف يوضح حجم الأموال المفقودة أو الجهات المستفيدة، واكتفى كل طرف بتبادل الاتهامات بينما تتواصل الخسائر في صمت.
إن قصة الــــ14 مليار دولار المنهوبة في زمن “الغويل” وفضيحة 10 مليارات يورو المفقودة في بلجيكا ليست مجرد قضايا مالية، بل تعكس حجم الانهيار المؤسسي الذي حول الاستثمارات الليبية الخارجية إلى غنيمة في سوق مفتوحة يتنافس عليها مسؤولون محليون وشبكات مالية دولية. والخسارة في جوهرها لم تعد مالية فقط، بل امتدت لتقويض ثقة الليبيين في مؤسساتهم وكشفت عجز المجتمع الدولي عن حماية أموال شعب يعيش واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والسياسية في المنطقة. وإذا لم يتم بناء سلطة شرعية موحدة قادرة على إدارة هذه الأصول ومحاسبة المتورطين، فإن نزيف الثروات سيستمر فيما يزداد المواطن الليبي فقرًا ومعاناة.