مقالات الرأي

صوت الإعلام الرصين أمام طفرات العصر

بقلم/ عفاف الفرجاني 

جيل الوسط، جيل يقف بين إعلام الأمس وإعلام اليوم، بين القلم والورق من جهة، والشاشة الصغيرة والهاتف المحمول من جهة أخرى. هذا الجيل جمع بين المصداقية التي تفرضها المدرسة التقليدية في الصحافة، وبين سرعة الإيقاع التي جاء بها الإعلام الحديث. ومن هذا الموقع أكتب اليوم، لأقول إن الإعلام الرصين الملتزم لا يمكن أن تلغيه الطفرات السريعة مهما بدت براقة، ولا يمكن أن يختفي أمام زخم الشباب وتجاربهم العابرة.

لقد عرفت الصحافة على مرّ التاريخ بكونها ذاكرة الشعوب ولسان حالها. لم تكن مجرد منصات لنشر الخبر، بل كانت مرجعية للوعي الجمعي، تؤرخ وتوثّق وتُسائل وتواجه. الإعلام الرصين يشبه الكتاب الذي يُقرأ جيلًا بعد جيل، بينما الإعلام الطارئ الذي يعتمد على الصخب وسرعة الانتشار أقرب ما يكون إلى منشور عابر على منصة رقمية، يثير ضجة ليوم أو يومين ثم يُطوى في غياهب النسيان.

صحيح أنّ الشباب جاؤوا بدماء جديدة وحيوية مختلفة، وهذا مكسب لا يمكن إنكاره، لكن حين يتحول الإعلام إلى مجرد عرض للآراء العابرة أو سباق للترندات، يفقد رسالته الكبرى. الإعلام ليس صراخًا ولا استعراضًا، بل هو التزام بمعايير مهنية صارمة: دقة المعلومة، صدقية المصدر، وأمانة الكلمة. وهذه القيم لا تسقط بالتقادم، ولا يُلغيها أن يرفع جيل جديد شعارات الحداثة والتجديد.

الواقع يؤكد أن الإعلام الملتزم يظل المرجعية، حتى للشباب أنفسهم. فعندما تنكشف الحقائق وتظهر الأزمات، يلجأ الجمهور إلى الصحافة الراسخة بحثًا عن التوضيح والتحليل. وعندما تندلع الأزمات الوطنية أو الكوارث الإنسانية، لا يكفي مقطع قصير على منصة اجتماعية، بل يحتاج الناس إلى سردية مكتملة، إلى خلفية، إلى قراءة نقدية، وهذا لا يقدمه إلا الإعلام الرصين.

إنها معركة بين العمق والسطحية، بين البناء والهدم، بين صوت مسؤول يعرف تبعات الكلمة، وصوت عابر يرى في الكلمة وسيلة للتسلية أو للشهرة. والإعلام الرصين قد يضعف أحيانًا أمام إغراءات العصر الرقمي، لكنه لا يختفي، لأنه ببساطة حاجة مجتمعية لا غنى عنها.

ولعلّ أكبر خطأ أن نضع الإعلام التقليدي والشبابي في مواجهة صفرية. فالمطلوب هو التكامل لا الإلغاء. فكما يحتاج الإعلام الراسخ إلى دماء جديدة تحركه، يحتاج الإعلام الشبابي إلى مرجعية وضوابط كي لا يسقط في الفوضى. وهنا تتضح قيمة “جيل الوسط” الذي يجمع بين الاثنين: يمسك بجذور المصداقية، ويفتح أبواب التجديد، ليظل الإعلام صوت الحقيقة لا صدى الضوضاء.

أما إعلام الترندات، ذلك الذي يعيش على الإثارة والافتعال، فمصيره الزوال. قد يصنع وهمًا بالانتشار السريع، لكنه لا يترك أثرًا حقيقيًا في الوعي العام. إنه أشبه برغوة على سطح الماء، تلمع لحظة ثم تتبدد، بينما يبقى الإعلام الرصين عميقًا كالنهر، لا ينضب ولا يجف.

زر الذهاب إلى الأعلى