مأساة العبيد وثمن الحرية

بقلم/ عبدالكريم كشكر
من بين الشخصيات التاريخية التي ظلت حاضرة في المخيال الثوري، يبرز سبارتاكوس بوصفه رمزًا خالدًا لمأساة العبودية ولحلم الحرية في آن معًا. حين سُئل كارل ماركس عن الشخصية التاريخية التي يعجب بها أكثر، أجاب بلا تردد: سبارتاكوس. لم يكن الأمر مجرد إعجاب بقائد عسكري قاد تمردًا واسعًا، بل إقرارًا بأن التاريخ البشري هو تاريخ صراع طبقي بين المستغِلين والمستغَلين، بين السادة والعبيد.
سبارتاكوس، العبد التراقي الذي أُقحم في حلبة المصارعين ليكون أداة تسلية في مسارح الدم الرومانية، تحوّل سريعًا إلى قائد لثورة هزّت أركان الإمبراطورية. فقد جمع حوله عشرات الآلاف من العبيد والفقراء والمهانين، وأعلن أن تحرره لا يمكن أن يكون فرديًا، بل لا بد أن يكون جماعيًا، موجهًا ضد منظومة الاستعباد ذاتها. غير أن ثورته انتهت بمأساة: انتهت حياة سبارتاكوس على يد من أراد لهم التحرر، وانتهت معه حياة آلاف من العبيد صُلبوا على الطرقات عقابًا لهم، وانهارت حركتهم أمام جبروت روما، لكن ذكراه بقيت شاهدًا على أن المستعبد قادر على أن يقول “لا” في وجه السيد.
هذه المأساة الأولى تمثل مدخلًا لفهم أشكال العبودية الحديثة التي وصفها ماركس بمفهوم الاستلاب (Alienation)، أي فقدان الإنسان لجوهره حين يُختزل إلى مجرد أداة لإنتاج الثروة لصالح غيره. العامل الذي يقضي عمره في مصنع، الطبيب المرهق في مستشفى مكتظ، الفلاح في حقول الشركات الزراعية الكبرى كلهم يعيشون شكلًا من الاستلاب، إذ ينتجون لكنهم محرومون من ثمار إنتاجهم، يتعبون لكن فائض القيمة يذهب إلى “السادة الجدد” من أصحاب رأس المال. وبذلك لم تنتهِ العبودية؛ إنها فقط ارتدت قناعًا جديدًا أكثر نعومة في الشكل وأكثر قسوة في الجوهر، حيث يساق الإنسان اليوم إلى مصانع العمل أو دوامة الديون كما كان العبد يُساق بالسلاسل إلى الحقول.
هذه الثنائية بين السيد والعبد استعادها عالم الاجتماع الأمريكي ثورستين فيبلن في مطلع القرن العشرين، حين صاغ في كتابه “نظرية الطبقة المترفة” مفهوم الترف الاستعراضي (Conspicuous Leisure) والاستهلاك الاستعراضي (Conspicuous Consumption). الفكرة أن الطبقات العليا لا تستهلك لإشباع حاجة، بل لتُظهر مكانتها عبر مظاهر الترف الفارغ. السيدة الرومانية التي كانت تغرق في الولائم وحفلات الدم لا تختلف كثيرًا عن السيدة المعاصرة التي تستعرض حقائبها الفاخرة أو عطلاتها في جزر خاصة، فكلتاهما تعرف ذاتها من خلال إذلال الآخر: العبد في الماضي، والعامل الفقير في الحاضر.
على أن هذه المنظومة لا تستمر بقوة السادة وحدها، بل بأوهام العبيد أيضًا. ففي رواية “عناقيد الغضب” لجون شتاينبك، تظهر عائلات المزارعين الأمريكيين الذين نزحوا في زمن الكساد الكبير متشبثين بوهم أن الفقر مرحلة انتقالية نحو الغنى، وأنهم سينضمون يومًا ما إلى الطبقة المترفة. هذا الوهم جعلهم يقبلون بالمهانة ويواصلون العمل تحت أسوأ الظروف، وهو وهم يتكرر اليوم في صور شتى، إذ يظن ملايين الفقراء حول العالم أن الإرادة الفردية كافية للانتقال من الفقر إلى الثراء، وأن الغنى ثمرة جهد شخصي أو قدر إلهي لا انعكاس لبنية احتكارية تحتكر وسائل الإنتاج. ومن هنا يطاردون سراب الحلم الأرستقراطي عبر تقليد أنماط حياة الأغنياء، من الهواتف الفاخرة إلى موائد البذخ، بينما يبقون أسرى فقرهم واستلابهم.
هذه المأساة الفردية تكتسب اليوم بعدًا جماعيًا، إذ لم يعد الاستلاب مقتصرًا على العامل أو الفقير، بل يشمل شعوبًا بأكملها. إفريقيا المنهوبة، آسيا المستغلة، وليس أخيرًا غزة المحاصرة تحت آلة الإبادة، كلها صور حديثة لعبودية جماعية تمارس باسم الحضارة والتفوق.
كما برر الرومان استعباد الشعوب بهيمنتهم العسكرية والثقافية، يبرر الغرب المعاصر حروبه ونهبه بذريعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما الحقيقة أن ثروات الشعوب تُسلب ودماؤها تُراق لإطالة عمر ترف السادة.
وفي هذا السياق يطل اسم معمر القذافي بوصفه محاولة حديثة لتجسيد ثورة المستغَلّين من فقراء العالم وعبيد العصر الحديث على أسياد العالم وروما الجديدة. فقد أمم نفط بلاده محاولًا استعادة وسيلة الإنتاج الأساسية من أيدي الشركات الغربية، وطرح مشروع الكتاب الأخضر كنظرية لتجاوز استلاب الإنسان السياسي والاقتصادي، بل دعم ودعا مرارًا إلى ثورة عالمية للمستضعفين، في وجه الاستلاب والاستكبار العالمي. لكن النهاية جاءت مأساوية بدورها: في معركته الأخيرة قُتل على أيدي تحالف دولي وإقليمي وبمشاركة من أبناء شعبه الذين أراد تحريرهم، كما صُلب سبارتاكوس على الطرقات رمزًا لانكسار ثورة العبيد، استشهد القذافي في سرت رمزًا لمأساة الحالمين بالتحرر. وهكذا يتضح أن الخيط الواصل من سبارتاكوس إلى القذافي واحد: ثورات العبيد تُخمد بالقوة، والسادة يواصلون لعبتهم في النهب والترف، بينما يظل المستعبَدون أسرى أوهامهم.
لكن هذه المأساة المستمرة لا تعني عبثية المعركة، فكما ألهم سبارتاكوس ماركس، قد تُلهم مآسي غزة أو فقر إفريقيا قادة جددًا يرفعون راية التحرر، غير أن النجاح لن يتحقق ما لم يتحرر العبيد أنفسهم من أوهامهم، من الاعتقاد بأن الفقر قدر، وأن الغنى حلم فردي، وأن تقليد السادة يمنحهم حرية.
إن الاستلاب والترف الاستعراضي وأوهام الفقراء كلها عناصر في مسرح متكرر منذ آلاف السنين: السادة ينهبون باسم الحضارة، والعبيد يتأرجحون بين التمرد والاستسلام، وما بين صلب سبارتاكوس في روما وسقوط القذافي في سرت يمتد تاريخ طويل من الدماء والخيبات، لكنه أيضًا تاريخ للأمل والإصرار على أن الحرية ممكنة، حتى لو بدت بعيدة المنال.