مقالات الرأي

ليبيا بين الانقسام وفرص البناء الوطني: نحو رؤية مستقبلية

بقلم/ فرج بوخروبة

تعيش ليبيا منذ أكثر من عقد مرحلة حرجة من تاريخها الحديث، مرحلة تجمع بين الانقسامات الداخلية، والفراغ السياسي، والتدخلات الخارجية، في حين يظل الشعب الليبي يتطلع إلى دولة مستقرة تحمي كرامته وتؤمن حقوقه وتضمن له حياة كريمة. الأزمة الليبية ليست مجرد نزاع على السلطة أو على الموارد، بل هي انعكاس لتراكم تحديات هيكلية طويلة، تمس مؤسسات الدولة، واقتصادها الريعي، ونسيجها الاجتماعي، ما يجعل البحث عن حلول شاملة أمرًا صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا.

لقد شهدت ليبيا بعد عام 2011 تغيّرًا في المشهد السياسي، وبرزت الحاجة إلى مشروع وطني جامع يضمن مشاركة جميع الأطراف ويعزز وحدة الدولة. إلا أن الفراغ المؤسساتي والسياسي الذي رافق هذه المرحلة أتاح ظهور قوى متنافسة على مختلف الأصعدة، بعضها عبر المشاركة السياسية، وبعضها عبر السيطرة الميدانية، ما أدى إلى تعقيد المشهد الوطني واستغلال التدخلات الخارجية لدعم أطراف محددة على حساب الاستقرار والوحدة الوطنية.

وتتجلى الأزمة الراهنة في مشهد متشابك ومعقد، حيث تتوزع السلطات بين حكومتين وبرلمانين ومؤسسات موازية، ما يعمّق حالة الشلل ويعوق اتخاذ القرارات الوطنية الكبرى. كما تفشى السلاح خارج إطار الدولة، إذ تتحكم العديد من الميليشيات في المدن والمنافذ الاقتصادية، وتحولت إلى قوة مؤثرة سياسيًا واقتصاديًا، مستفيدة من الفراغ القانوني وضعف الدولة. ويضاف إلى ذلك الصراع على الموارد، فالنفط، وهو شريان الاقتصاد الليبي، أصبح أداة للتجاذب السياسي بدلًا من أن يكون وسيلة للتنمية، ما أثر على جميع القطاعات الحيوية وأضعف الثقة بين المواطنين والدولة.

البنية الاجتماعية الليبية، التي تتسم بالتنوع القبلي والمناطقي، كانت في الماضي رافدًا للوحدة الوطنية، لكنها في ظل الأزمة استُغلت كأداة للانقسام والاستقطاب، ما جعل المشهد أكثر هشاشة وتعقيدًا. كما لعب التدخل الخارجي دورًا مضاعفًا في تأزيم الوضع، إذ أسهم اختلاف أجندات القوى الإقليمية والدولية في تحويل ليبيا إلى ساحة لتصفية الحسابات بدلًا من أن يكون مسألة وطنية متفقًا عليها، ما أضعف فرص التسوية وأطال أمد الأزمة.

رغم المبادرات الدولية المتعددة، من اتفاق الصخيرات إلى مؤتمر برلين، يواجه تنفيذ أي خطة عقبات جوهرية، أبرزها ضعف الثقة بين الفرقاء، تضارب المصالح الإقليمية، محدودية أدوات الأمم المتحدة، وتغوّل بعض الميليشيات التي تعيش على اقتصاد الحرب وتخشى أي تسوية تحد من نفوذها، السياسي أو الاقتصادي. لكن رغم هذه التحديات، تبقى هناك فرص حقيقية إذا أُحسن استثمارها وارتبطت بإرادة وطنية صادقة.

من أبرز هذه الفرص، الاتفاق على قاعدة دستورية واضحة وشاملة، توفر إطارًا لإنهاء حالة الشرعيات المتعددة، وتهيئة الظروف لإجراء انتخابات حرة وشفافة، تضمن تمثيل جميع الليبيين وتعيد الشرعية للمؤسسات الوطنية. كما يعد توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية أمرًا محوريًا، بحيث يتم حصر السلاح في يد الدولة ودمج من يمكن دمجه ضمن أطر قانونية، ومحاسبة من يصر على حمل السلاح خارج المؤسسة، بما يعزز سلطة الدولة ويضمن استقرار الأوضاع الأمنية.

إلى جانب ذلك، تأتي مسألة إدارة الثروة الوطنية بشكل عادل كركيزة أساسية للحل. فتنظيم توزيع إيرادات النفط على مختلف المناطق الليبية، بما يحقق العدالة بين برقة وطرابلس وفزان، يقطع الطريق أمام استخدام الموارد كسلاح سياسي، ويضمن تمويل مشاريع التنمية والخدمات الأساسية التي طال انتظارها. المصالحة الوطنية، على جانب آخر، تعد خطوة أساسية لإعادة بناء الثقة بين الليبيين، عبر إطلاق حوار اجتماعي وثقافي شامل يضم القبائل، والمرأة، والشباب، والمكونات المدنية المختلفة، بما يعزز التلاحم الاجتماعي ويقلص الانقسامات الداخلية.

ويظل دور دول الجوار بالغ الأهمية، خاصة في رعاية مسار وطني متوازن، يحد من التدخلات الخارجية ويحافظ على السيادة الوطنية. إلى جانب ذلك، يجب أن يكون هناك ضغط دولي متوازن، يترجم إلى عقوبات واضحة على معرقلي الحل، ويمنع التمييز في التعامل مع الأطراف المختلفة، مع التركيز على دعم المسارات السلمية التي تسهم في استقرار البلاد.

المشهد الليبي اليوم مفتوح على ثلاثة سيناريوهات محتملة. السيناريو الأول هو النجاح، حيث يحقق التوافق الداخلي على دستور جديد وينجح في تنظيم انتخابات عامة تؤدي إلى بناء دولة موحدة ومستقرة، قادرة على استعادة سيادتها وأدوارها الوطنية. السيناريو الثاني هو استمرار الوضع الراهن في حالة “لا حرب ولا سلم”، وهو الأخطر من وجهة نظر وطنية، لأنه يستهلك الوقت والموارد ويزيد من هشاشة الدولة ويؤجل أي مشروع تنموي حقيقي. أما السيناريو الثالث، فهو استمرار تغوّل السلاح وتعدد الولاءات، ما قد ينزلق بالبلاد إلى تفكك كامل يهدد وحدة الدولة وترابها، ويترك المجال مفتوحًا للتدخلات الخارجية والفوضى المستمرة.

الأزمة الليبية ليست مصيرًا محتومًا، بل نتيجة تراكم تحديات وغياب مشاريع وطنية شاملة. الفرص لا تزال موجودة إذا فضل الليبيون مصلحة الوطن على المصالح الضيقة، ولعبت الأمم المتحدة ودول الجوار دور الوسيط النزيه، بعيدًا عن الانحياز أو المساواة الزائفة بين المعرقلين والمبادرين للحل. المستقبل الليبي مرهون بقدرتنا على صياغة عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة مدنية عادلة، تعيد للوطن سيادته، وتضمن للمواطن الأمن والكرامة، وتفتح الطريق أمام تنمية حقيقية تغطي جميع مناطق البلاد وتحقق العدالة الاجتماعية.

إن ليبيا اليوم أمام اختبار تاريخي، اختبار يحدد مسارها لعقود قادمة، بين دولة متماسكة تستطيع تحقيق آمال شعبها، أو استمرار حالة الانقسام التي تهدد حاضرها ومستقبلها. ما يجمع بين كل فرص الحل الممكنة هو الإرادة الوطنية الحقيقية، التي تتجاوز الحسابات الضيقة والفئوية، وترتكز على مشروع جامع يضع المواطن الليبي في صميم العملية الوطنية، ويعطي مؤسسات الدولة دورها الكامل، بعيدًا عن الفوضى والانقسامات.

إن تحقيق هذا الهدف لن يكون سهلًا، لكنه ممكن، إذا توفرت الشجاعة السياسية والرغبة الصادقة في التغيير، وعُزز بدعم متوازن من المجتمع الدولي، دون فرض أجندات خارجية تعرقل المسار الوطني. ليبيا بحاجة اليوم إلى رؤية واضحة، وخارطة طريق محددة، تجمع بين المصالحة الوطنية، وتوحيد المؤسسات، وإدارة عادلة للثروة، وتفعيل الدور الدولي والإقليمي في إطار احترام سيادة الدولة، وهو ما قد يكون بداية لبناء مستقبل مستقر وآمن لكل الليبيين.

إنّ كل خطوة نحو الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي والأمني تُعد استثمارًا في مستقبل ليبيا، وتفتح الباب أمام التنمية المستدامة، وتمكن المواطن من استعادة ثقته بالدولة وبمؤسساتها، وهو الهدف الذي يجب أن يجمع كل الليبيين، بعيدًا عن الحسابات الفئوية أو مصالح الأطراف الخارجية. إن ليبيا تستحق أن تكون دولة حضارية، قوية، وموحدة، تضع مصلحة شعبها فوق كل اعتبار، وتعيد إليها مكانتها في قلب المنطقة العربية والدولية.

زر الذهاب إلى الأعلى