مقالات الرأي

الدستور الفلسطيني: شهادة الميلاد المؤجّلة

بقلم/ محمد علوش

ليس الاجتماع الأول للجنة صياغة الدستور الفلسطيني مجرّد إجراء بروتوكولي عابر، بل هو لحظة فاصلة تحمل عبق التاريخ وملامح المستقبل معًا، لحظة تضع فلسطين على عتبة ولادة جديدة، حيث يتحوّل الحلم المؤجَّل إلى استحقاق حاضر، وتخرج فكرة الدستور من الأدراج لتصبح مشروعًا سياسيًا وقانونيًا ووطنًا مكتوبًا بالكلمات.

لقد طال انتظار شعبنا، وهو يعبر ممرّات الدم والمنفى، ليصل إلى هذه النقطة، من سلطة مؤقتة ومرحلية، إلى دولة تتجسّد بإرادة أبنائها، دستورها هو عقدها الاجتماعي، ورايتها هي سيادتها، ونصوصها هي خريطة حريتها وحقوقها، فالدستور ليس سطورًا جامدة، بل هو صوت الشعب حين يكتب نفسه، وهو مرآة الهوية الوطنية التي تقول للعالم، إن فلسطين ليست طارئة على الجغرافيا ولا عابرة في التاريخ، بل دولة راسخة بالوعي والدم والإرادة.

إن تشكيل اللجنة بمرسوم رئاسي هو إعلان بأن معركة الفلسطيني لم تعد مقتصرة على صمود الأرض وحماية الحجر والإنسان، بل امتدت لتشمل بناء المؤسسات ورسم ملامح الدولة القادمة، فالدستور ليس فقط وثيقة قانونية، بل سلاح مقاومة، ودرع هوية، وحصنا أمام مشاريع التصفية التي تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها فرضها على حساب حقوقنا الوطنية العادلة والمشروعة.

لكن التحدي الأكبر ليس في كتابة النصوص وحدها، بل في أن تبقى هذه اللجنة على عهدها، تمضي بلا تلكؤ حتى إنجاز المسودة النهائية، وأن تنفتح على جميع القوى الوطنية والشعبية، من الفصائل والتنظيمات إلى النقابات والجامعات والمجتمع المدني، في الوطن والشتات، حتى يكون الدستور ثمرة إجماع، لا ملكًا لفئة ولا حكرًا لنخبة، فوحده التوافق الوطني يمنح النصوص الحياة، ويحوّلها من حبر على الورق إلى روح تسري في الأمة.

إن شعبنا، وهو يواجه المجازر الدموية وجريمة الإبادة الجماعية في غزة، والاستيطان في الضفة، والتهجير والاقتلاع في كل مكان، يحتاج إلى دستور يلمّ شتاته، ويحمي مشروعه الوطني من التفتت، فإقرار الدستور سيكون إعلانًا إلى العالم أجمع، أن فلسطين باقية، وأن مشروعها التحرري يتجسّد في دولة قانون وعدالة وحقوق، لا في كيان هشّ أو سلطة انتقالية.

وعليه، فإن مسؤولية القوى الوطنية والمجتمعية جسيمة، إذ عليها أن تشارك بوعي وصدق في صياغة هذا النص المصيري، فالدستور ليس مجرد مادة قانونية، بل هو ذاكرة الأمة وإرادتها، ووثيقة وحدتها، وكما أن التحرر الوطني لم يكن ليولد لولا دماء الشهداء وتضحيات الأجيال، فإن الدستور لن يرى النور إلا من رحم المشاركة الشعبية العميقة والإجماع الوطني الواسع.

إن الدستور الفلسطيني المنتظر ليس ورقًا ممهورًا بخاتم، بل هو وعد الأجيال التي قاومت، وحلم الذين استشهدوا كي تبقى فلسطين، وهو شهادة ميلاد لوطن سيولد مهما طال ليل الاستعمار.. إنه راية ستعلو فوق الأرض كلها، ودولة حرّة بدستور جامع، وشعب لا ينكسر، يقول للعالم من جديد: هنا فلسطين، وهنا شعبها، وهنا دولتها القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى