من إنجاز القـرن إلى ضحيـة الفوضى.. النهر الصناعي العظيــم يـروي قصـة ليبيا الحديثـة

بقلم/ عثمــان الدعيكي
منذ عقود طويلة عانت ليبيا أزمة خانقة في توفير مياه الشرب. فبلد صحراوي لا أنهار فيه ولا بحيرات طبيعية، ويعتمد على أمطار شحيحة لا تتجاوز معدلاتها السنوية في معظم المناطق مئة ملم، كان يواجه واقعًا صعبًا تمثل في ملوحة المياه الجوفية على الساحل نتيجة الضخ المفرط والتوسع العمراني المتزايد. وفي ظل هذا الوضع، كان البحث عن حل جذري لأزمة المياه مسألة حياة أو موت بالنسبة لليبيين، إلى أن جاء المشروع الذي وصفه كثيرون بمشروع القرن النهر الصناعي العظيم.
البداية كانت في خمسينيات القرن الماضي، وخلال عمليات التنقيب عن النفط في الجنوب الليبي، جرى اكتشاف كميات هائلة من المياه الجوفية العذبة مدفونة في أعماق الصحراء ضمن ما يعرف بخزان الحجر الرملي النوبي، وهو أكبر خزان جوفي عذب في العالم يمتد عبر ليبيا وتشاد والسودان ومصر. هذا الاكتشاف مهّد الطريق أمام فكرة ترسخت في أذهان الوطنيين من أبناء هذا البلد في أواخر سبعينيات القرن الماضي، تتلخص في فكرة تحويل الصحراء إلى مصدر للمياه العذبة، لتُطلق الدولة الليبية في مطلع الثمانينيات واحدًا من أضخم المشروعات الهندسية في العالم. ففي عام 1984 وُضع حجر الأساس لانطلاقة النهر الصناعي الذي اعتمد على حفر أكثر من 1300 بئر بعمق يزيد على 500 متر، وربطها بشبكة أنابيب عملاقة بقطر 4 أمتار للأنبوب، مدفونة تحت الأرض بلغ طولها ما يقارب أربعة آلاف كيلومتر، قادرة على نقل ملايين الأمتار المكعبة من المياه يوميًا إلى الشمال حيث تتركز المدن الكبرى والكثافة السكانية العالية.
ومع اكتمال مراحل المشروع التشغيلية تباعًا، تحولت الفكرة إلى واقع ملموس. المياه العذبة باتت تتدفق إلى طرابلس وبنغازي وسرت وغيرها من المدن الساحلية، لتدخل البيوت والشوارع والمزارع، وتغيّر حياة الليبيين بصورة جذرية. لم يعد الحصول على المياه هاجسًا يوميًا كما كان من قبل، بل صار في المتناول وبكميات وفيرة. وتشير التقارير إلى أن المشروع غطى أكثر من 70% من احتياجات السكان من مياه الشرب والزراعة، وساهم في توسيع الرقعة الزراعية بشكل غير مسبوق. فقد تضاعفت المساحات المزروعة، وارتفع عدد المزارعين، وازدهرت محاصيل الحبوب والخضروات والفواكه، في مشهد أعاد الثقة بأن المياه يمكن أن تكون رافدًا للتنمية في بلد صحراوي قاسٍ مثل ليبيا.
لكن مثل أي إنجاز ضخم، كان المشروع يحتاج منذ البداية إلى إدارة مستقرة وصيانة مستمرة لضمان استدامته. فالأنابيب العملاقة والتي تمتد عبر آلاف الكيلومترات، ووحدات الضخ المنتشرة في الصحاري، والآبار العميقة، كلها عناصر تتطلب متابعة دائمة، فضلًا عن إعادة تعميق الآبار بين فترات متباعدة، واستبدال قطع غيار محطات الرفع بشكل منتظم. وقد أدركت الدولة في السنوات الأولى للمشروع هذه الحقيقة، فخصصت له الموارد اللازمة، وأولته عناية كبيرة، وحمته من أي اعتداءات، بإصدار القوانين والتشريعات التي تضمن تدفق الموارد لتمويل هذا الإنجاز الضخم والمحافظة عليه، ما ضمن استقرار تدفق المياه لعقود متتالية.
غير أن كل ذلك تغير مع سقوط الدولة في فوضى ما بعد عام 2011. فمع تفكك المؤسسات، وتعدد مراكز القوى، وتراجع سلطة الدولة، أصبح النهر الصناعي ضحية مباشرة للتجاذبات السياسية والمصالح الضيقة. فقد تعرضت منشآته لتخريب متكرر وسرقات منظمة، وفُككت عشرات الآبار من الخدمة، وانخفض إنتاج بعضها إلى أقل من ثلث طاقتها التصميمية، فيما استُهدفت محطات التحكم بالهجمات المسلحة. وإيقاف إمدادات المياه بين الحين والآخر كوسيلة ضغط في الصراع الدائر في البلاد.
اليوم لم يعد النهر الصناعي ذلك المشروع الذي كانت الدولة تضعه في صدارة أولوياتها. غابت الصيانة المنتظمة، وتراجع الإنفاق، وتفككت الإدارة بفعل الانقسام السياسي، وأصبح المشروع، مثل غيره من مؤسسات الدولة، نهبًا للفساد واللامسوؤلية. وبدلًا من أن يكون شريان حياة مؤمنًا، صار مهددًا بالانقطاع المتكرر، وتحمّل المواطن الليبي وحده فاتورة الفوضى التي اجتاحت البلاد قبل أن تجتاح هذا المشروع الضخم.
المقارنة بين الماضي والحاضر فيما يخص النهر الصناعي مؤلمة. ففي زمن الدولة المركزية كانت الإدارة موحدة، والحماية الأمنية قائمة، والمياه تصل إلى كل بيت بانتظام. أما اليوم، فإن الفوضى جعلت المشروع عرضة للتخريب والنهب والإهمال، وأضاعت على الشعب استقرارًا مائيًا كان يمكن أن يكون أساسًا لنهضة اقتصادية واجتماعية.
ورغم كل التحديات، تؤكد التقارير العلمية أن الخزان الجوفي الذي يغذي النهر الصناعي قادر على الاستمرار لعقود إذا ما أُدير بعقلانية، وأن المياه التي يضخها ليست عرضة للنضوب السريع كما يُشاع، ما يمنح الليبيين فرصة ثمينة لإنقاذ المشروع قبل فوات الأوان. غير أن هذه الفرصة تحتاج إلى إرادة سياسية جادة، وإدارة مستقرة، وحماية أمنية حقيقية، بعيدًا عن التجاذبات والمصالح الضيقة.
إن النهر الصناعي العظيم لم يكن مجرد مشروع هندسي، بل كان إنجازًا تاريخيًا للشعب الليبي بأسره. لقد نقل البلاد من العطش إلى الوفرة، ومن المعاناة إلى الأمل. لكنه اليوم مهدد بفعل الفوضى واللامسوؤلية. وإذا لم تُتخذ خطوات عاجلة لحمايته وصيانته وضمان استدامته، فإن إنجاز القرن سيتحول إلى مأساة، وسيجد الليبيون أنفسهم من جديد أمام أزمة عطش قد تكون أخطر من أي وقت مضى. حماية النهر الصناعي ليست ترفًا، بل قضية وجود، لأنه شريان الحياة لليبيين وأجيالهم القادمة.