مقالات الرأي

قراءة خارج معايير الحقد!

بقلم/ مصطفى الزائدي 

بعد الحرب العالمية الثانية، ومع بدء مرحلة الاستقلال الوطني، نجح الضباط الأحرار في مصر في قيادة ثورة وطنية تطورت إلى ثورة قومية شاملة، عملت على مساعدة الشعوب العربية في التخلص من الاستعمار، ونادت ببناء دولة عربية واحدة، وطرحت مسألة المساواة والعدالة الاجتماعية، وأطلقت ثورة في الصناعة والزراعة والتعليم وبناء أجيال متعلمة في الوطن العربي.

لكن الثورة الناصرية لم تمر بسلام، إذ واجهت عداءً شرسًا من الاستعمار القديم لما يدركه من خطورتها على مستقبل مشاريعه في المنطقة. وللأسف، تمكنت القوى الإقليمية المرتبطة بالمستعمر بعد وفاة جمال عبد الناصر من فرض نفسها وتصعيد الخطاب المعاكس للمشروع الناصري، ورفض الوحدة العربية بالقول باستحالة تحققها، وأنها ينبغي أن تتحقق بالتدرج عبر بناء الدويلات القطرية أولًا، ثم تجمعها في إطار أوسع وهو ما لم يتحقق طيلة نصف قرن. واستُعيض عنها بمحاولات أخرى فاشلة من خلال الجامعة العربية، مثل اتفاقيات التعاون الاقتصادي والدفاع العربي المشترك، والتي لم تكن في الحقيقة سوى وسائل لمنع قيام دولة عربية قوية منيعة.

واليوم، وبعد نجاح أولئك في مخططاتهم المضادة للثورة القومية، يحاولون تحميل ما يجري في الوقت الحاضر للمشروع القومي، وكأنه تحقق ونجح وفرض نفسه.

وذلك يفسر ما واجهته الأنظمة التقدمية العربية، التي نتجت من الثورة الناصرية، وفي مقدمتها ثورة الفاتح من تحديات ومؤامرات.

ثورة الفاتح كانت حدثًا تاريخيًا كبيرًا قاده الضباط الوحدويون الأحرار، استكمل تحرير ليبيا واستقلالها، وأمّن سيادتها، وعمل على بناء قطر مزدهر اقتصاديًا آمن مستقر، وبناء قوة عسكرية واقتصادية استُخدمت لتعزيز القدرة العربية.

وعندما عجزت الوسائل التقليدية للغرب في الحد من تنامي الطرح التحرري القومي والعالمي لثورة الفاتح، اضطر إلى التدخل العسكري المباشر أثناء تنفيذ مؤامرة “الربيع العربي” بدعوى إقامة الديمقراطية وتحرير الشعوب من الدكتاتورية. واستعمل لذلك أنظمة عربية وراثية لا تسمح حتى بإقامة جمعيات أهلية فيها، ولم يُخْجِلْها ذلك عند الحديث عن “تحرير” العراق وليبيا وسوريا واليمن ومصر وتونس، رغم أن أنظمتها جمهورية وفقا للنموذج المطبق في دول الاستعمار.

واليوم، وبعد النصر المؤقت للاستعمار ونجاحه في تمكين عملائه، يمكننا أن نرى نتيجة تعثر المشروع القومي للثورات العربية الحقيقية فيما يجري في العراق وليبيا وسوريا ولبنان وفلسطين، وما تتعرض له غزة والضفة من إبادة معلنة، وما نسمعه بالصوت والصورة من تصريحات قادة الكيان الإرهابي، وخاصة مجرم الحرب وزير الدفاع الصهيوني، وقبله رئيس الوزراء مجرم الحرب نتنياهو، وملخصها أن الشرق الأوسط كله عمليًا صار تحت السيطرة الإسرائيلية؛ فقد نجح – حسب زعمه – في تجريد سوريا من سلاحها، وأقام منطقة منزوعة السلاح في جنوبها، ويعمل على نزع سلاح المقاومة اللبنانية واليمنية والعراقية، ويسعى للقضاء تمامًا على المقاومة الفلسطينية.

المشكلة اليوم التهديد الحقيقي لوجود أكثر من نصف مليار عربي يقيمون بين الخليج والمحيط، يعتبرهم الغرب مجرد “حيوانات ضارة” ينبغي أن تنقرض، ويعمل على ذلك بكل السبل المباشرة وغير المباشرة، منها دعم المنظمات الإرهابية التي حملت شعارات دينية كاذبة، والمجموعات الإثنية التي تهدف إلى تفتيت الأمة ونشر الفتن عبر تفجير الصراعات المذهبية والقبلية والجهوية.

ولأن الأمة العربية تكوين ثقافي وحضاري وديني وليس عرقيًا فقط، اعتمدت على العربية كلسان للحضارة العربية الإسلامية، ومن ثم فإن إيجاد مجموعات إثنية ومذهبية وطائفية أمر ليس بالصعب.

علينا أن نعيد قراءة مرحلة الثورة القومية التقدمية في الوطن العربي، وخاصة ثورة الفاتح من سبتمبر، بعيدًا عن الحقد والكراهية والدعاية المزيفة. فثورة الفاتح – شاء من شاء وأبى من أبى – حولت ليبيا من بلد فقير مهمل إلى بلد مستقر مزدهر، قائد ورائد في الإقليم والعالم.

وبالإضافة إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، المشروع الفكري السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي قدمته، ينبغي تقييمها بموضوعية، ومن أهم القضايا التي طرحتها بعد طرد القواعد الأجنبية والمستوطنين الإيطاليين واسترجاع أملاك المواطنين المغتصبة، ملف القضايا الاجتماعية، ومنها إلزامية التعليم ومجانيته، وحق الناس المتساوي في الصحة والرعاية الاجتماعية، وهو ما انعكس في القانون الصحي رقم 106 لسنة 1973 وقانون الضمان الاجتماعي، اللذين رغم صدورهما قبل نصف قرن ما زالا حتى اليوم من أكثر قوانين الرعاية الاجتماعية والصحية تطورًا على مستوى العالم.

كما ينبغي إعادة التفكير في وسائل الممارسة الديمقراطية؛ فبرأيي أن الليبيين، طيلة 15 عامًا بعد فبراير، استوعبوا جيدًا المسرحية الديمقراطية التي فُرضت في بلادهم، وأدركوا أنها مشروع فاشل، ليست سوى وسيلة للسيطرة والنهب، ولن تحقق ما يسمى بالحكم الرشيد بأي شكل. وكذلك الحال بالنسبة للفساد المستشري الآن، والطبقية التي بدأت تطفو إلى السطح ينبغي إعادة طرح النظام الاقتصادي القائم على المساواة والاشتراكية والعدالة الاجتماعية؛ فشعبنا اليوم أحوج ما يكون إلى مشاريع جادة نابعة منه ومن تجربته الزاخرة.

وعلى النخب أن تتجاوز حالة الإرهاب الفكري الذي مارسته الجماعات الإرهابية، حتى تمكنت من السيطرة على البلاد بعد 2011، ومنعت – بل جرّمت – الحديث في هذه المسائل الأساسية.

لقد حان الوقت لإعادة طرحها دون خوف أو تردد، خاصة أن الليبيين في أغلبهم يبحثون عن إعادة بناء الدولة على أسس جديدة يتحقق فيها الأمن والاستقرار، كما كان الحال قبل 2011.

زر الذهاب إلى الأعلى