ما طرحه الأستاذ الدكتور مهدي أمبيرش من تساؤل حول: هل يمكن نسيان الماضي؟

بقلم/ محمود امجبر
هو تساؤل عميق يمكن أن نستلهم منه رؤى متعددة، ونستخلص عبره تأملات فكرية تفتح بابًا للنقاش حول العلاقة بين الإنسان وماضيه، بين الهوية والذاكرة، وبين التقدم والقطيعة.
قراءة نقدية في دعوات القطيعة مع الجذور.
في زمن تُرفع فيه شعارات التقدم والانفتاح، يخرج علينا من يدّعي أن “نسيان الماضي” هو السبيل الوحيد للواقعية والحداثة. هذه الدعوة، رغم ما قد يبدو فيها من تحرر، تحمل في طياتها تناقضًا صارخًا، بل وتفتقر إلى أدنى درجات الوعي التاريخي والأنثروبولوجي.
الماضي ليس مجرد أحداث طواها الزمن، بل هو البنية التحتية التي تشكّل وعينا وهويتنا. الدين، العادات، التقاليد، اللغة، الأسماء، وحتى الذكريات الشخصية كلها امتدادات للماضي تعيش فينا ونتنفسها يوميًا. حين يقول أحدهم “انسَ الماضي”، فهو يطلب ضمنيًا أن ننسى أنفسنا، أن نُفرغ ذاكرتنا من كل ما يجعلنا ما نحن عليه.
دعونا نتخيل أن الإنسان شجرة: جذورها هي ماضيه، وساقها حاضره، وأغصانها مستقبله. هل يمكن لشجرة أن تنمو وتزهر إن اقتُلعت جذورها؟ بالطبع لا. كذلك الإنسان، لا يمكنه أن يتقدم دون أن يفهم ماضيه، يتصالح معه، ويستثمره في بناء مستقبل أكثر نضجًا.
الواقعية الحقيقية لا تعني تجاهل الماضي، بل تعني فهمه وتحليله. أن نكون واقعيين لا يعني أن نُقصي الدين أو نُسفّه التقاليد، بل أن نُعيد قراءتها في ضوء الحاضر، ونُميز بين ما هو إنساني خالد، وما هو قابل للتجاوز. أما التقدم، فلا يتحقق بالإنكار، بل بالبناء على ما سبق، وتطويره بما يتناسب مع المتغيرات.
ومن المفارقات أن من يدعو إلى نسيان الماضي، غالبًا ما يستند في خطابه إلى مفاهيم مستمدة منه: يستخدم لغة تراثية، يستشهد بأمثال شعبية، أو يعبّر عن هويته من خلال اسم عائلي متجذر في التاريخ. هذا التناقض يكشف أن القطيعة مع الماضي ليست ممكنة، بل هي وهم فكري لا يصمد أمام أول اختبار منطقي.
ما نحتاجه ليس نسيان الماضي، بل مصالحة معه. أن نُدرك أن الماضي ليس سجنًا، بل مرآة. أن نُعيد تأويله، ونستخرج منه الدروس والعِبر، دون أن نُقدّسه أو نُشيطنه. فالمجتمعات التي تنجح في بناء مستقبلها هي تلك التي تُحسن قراءة تاريخها، لا تلك التي تُحاول محوه.