مقالات الرأي

مآلات التغيير السياسي في ليبيا وفرضيات تقرير المصير نحو خيار شرقي-جنوبي كمشروع إنقاذ وطني!

بقلم/ فرج بوخروبة 

لا تزال ليبيا تراوح مكانها في دوامة من التفكك السياسي، والانقسام الجغرافي، وغياب المشروع الوطني الشامل. ما يُسمّى بـ”العملية الانتقالية” لم يُنتج دولة، بل أنتج تعدد السلطات، وتضارب المرجعيات، وسيطرة الميليشيات، وتمدد التدخلات الخارجية. وفي ظل هذا الواقع، لم تعد الخيارات التقليدية قادرة على وقف الانهيار، ما دفع أصواتًا سياسية ومجتمعية في الشرق والجنوب إلى طرح بديل استراتيجي جذري: تقرير المصير كمخرج وطني، لا كانفصال، بل كاسترداد للكرامة والعدالة

أولًا: مأزق التغيير السياسي في ليبيا

على امتداد أكثر من عقد، تكررت المحاولات لإرساء سلطة وطنية جامعة، لكنها كلها اصطدمت بواقع لا يُحتمل هيمنة مدنية وعسكرية متراكزة في الغرب، تُدار من عاصمة لم تعد تمثل كل الليبيين، ومؤسسات تُبنى على توافقات هشة، لا على شرعية دستورية أو تمثيل عادل.

النتيجة دولة شكلية، تفتقر إلى السيطرة على أراضيها، وتُدار اقتصاديًا من جهات غير منتخبة، بينما تُستنزف ثروات النفط من الشرق والجنوب دون عائد يُذكر للمجتمعات المحلية. هذا الخلل البنيوي لم يعد يُحتمل، وأصبح مصدرًا للسخط، ومحفزًا لطرح نماذج بديلة للحكم.

ثانيًا: تقرير المصير كخيار وطني لا كمطلب انفصالي

لم يعد مفهوم “تقرير المصير” مقتصرًا على السياقات الاستعمارية أو الانفصالية. في الحالة الليبية، يُفهم اليوم كحق أصيل للشعب في تحديد شكل حكمه، وتوزيع سلطاته، وإدارة موارده. وهو مبدأ يتوافق مع المبادئ الكونية للحرية والعدالة، ومع طبيعة المجتمع الليبي المتنوع جغرافيًا واجتماعيًا.

وفي هذا الإطار، لا يرى أبناء الشرق والجنوب في تقرير المصير تهديدًا للوحدة، بل يرونه الضامن الوحيد لها. فدولة قائمة على المركزية المفرطة فشلت، بينما دولة تقوم على التوازن، واللامركزية، والحكم المحلي، قد تكون الوحيدة القادرة على جمع الليبيين تحت سقف واحد، دون هيمنة أو تهميش.

ثالثًا: خيار الشرق والجنوب – مشروع بديل لا خيار تكتيكي

ما يطرحه الشرق والجنوب اليوم ليس مطالبة بحصة في كعكة السلطة، بل رؤية شاملة لإعادة بناء الدولة من القاعدة، انطلاقًا من المناطق التي حررت نفسها من سيطرة الميليشيات، ورفضت التدخلات الأجنبية، وتمسكت بالسيادة الوطنية.

هذا الخيار الاستراتيجي يقوم على:

  1. الإدارة الذاتية للمناطق المحررة

بعد تحرير الحقول النفطية، والموانئ، والمدن الرئيسية في الشرق والجنوب، بدأت مؤسسات محلية في إدارة الشأن العام، من الأمن إلى المال، من دون انتظار إذن من طرابلس. هذه التجربة تُشكل نموذجًا عمليًا لدولة مؤسسات حقيقية.

  1. الدعوة إلى نموذج فيدرالي عادل يُطالب المطالبون بنظام فيدرالي يُوزع فيه الدخل القومي بشكل عادل، وتُمنح فيه الأقاليم صلاحيات واسعة في التعليم، والصحة، والاستثمار، مع الحفاظ على وحدة الجيش والعملة والسياسة الخارجية.
  2. الاستفتاء الشعبي كمصدر للشرعية

بدل فرض الدساتير أو الحكومات من الخارج، يُقترح إجراء استفتاء شعبي في كل إقليم، يُحدد من خلاله شكل الدولة، ونظام الحكم، وتوزيع الصلاحيات. هذا الاستفتاء سيكون تعبيرًا حقيقيًا عن إرادة الشعب، وليس عن رغبات النخب.

  1. رفض التمديدات والتسويات الهشة

لم يعد مقبولًا تمرير حكومات انتقالية بلا صلاحيات، أو تمديد ولايات مؤسسات بلا شرعية. فالشعب لم يعد يثق في الوعود، ويُصرّ على حلول جذرية، لا ترقيعية.

رابعًا: لماذا يجب أن يُستجاب لهذا الخيار؟

لأن البدائل الأخرى لم تعد مقبولة في ظل التوجهات السياسية والاجتماعية الجديدة. لم يعد المجتمع الليبي يقبل بالهيمنة، أو بالوصاية، أو بالحلول التي تُفرض من الخارج. لقد تغير وعي المواطن، وازداد تمسكه بالكرامة، والعدالة، والمشاركة الحقيقية.

وطالما أن الغرب لم يُقدّم مشروعًا وطنيًا يُعيد الثقة في الدولة، ويُحقق التوازن، فإن على الشرق والجنوب أن يُقدما البديل. ليس بدافع الانفصال، بل بدافع الإنقاذ. فالمطلوب اليوم ليس وحدة شكليّة، بل وحدة قائمة على العدالة، والشراكة، والاحترام المتبادل.

خاتمة: نحو دولة تُبنى من الإرادة لا من القوة

ليبيا اليوم تقف على مفترق طرق. إما أن تستمر في نهج التسوية المؤقتة، والتمركز، والتدخلات، وتغرق أكثر في الفوضى، أو أن تفتح صفحة جديدة، تبدأ من الشرق والجنوب، حيث بدأ التحرير، وحيث تُبنى المؤسسات، وحيث تُطرح رؤية وطنية جديدة.

تقرير المصير، في هذا السياق، ليس تهديدًا، بل فرصة. فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس عادلة، وفرصة لإنقاذ وحدة الوطن من خلال العدالة، لا القمع. والسؤال الأهم ليس هل نقبل بالتقسيم؟ بل هل نُريد دولة لكل الليبيين، أم نبقى أسيرين لمنطق الهيمنة والانقسام؟

الجواب لا يكمن في طرابلس، بل في المدن المحررة، وفي صوت الشعب الذي بدأ يقول: كفى.

زر الذهاب إلى الأعلى