مقالات الرأي

ليبيا بين أنياب الفقر وأطماع الناهبين

بقلم/ محمد أبو خروبة

في بلاد تبحر فوق محيط من النفط، ويكتنز جوفها ثروات طبيعية تغري القارات، يقف المواطن الليبي على رصيف الواقع ممزق الحلم، مثقل القلب، يحصي أيامه على أصابع الصبر، ويكابد ظروفًا لا تليق بتاريخ شعب قدم الكثير، وانتظر ما لم يأتِ.

ليبيا اليوم ليست فقيرة، بل مفقرة، بين تنازع الحكومات، وتضارب المصالح، وتفكك المؤسسات، تحولت مقدرات الدولة إلى غنيمة يتقاسمها من يملكون النفوذ، فيما المواطن، الذي كان في صدارة المشهد، أصبح آخر من تذكر حقوقه، إن ذكرت أصلًا.

الغلاء مستفحل، والبطالة ترتفع، والخدمات شبه معدومة والمرافق العامة تعاني الانهيار، في الشمال والجنوب، من المدن إلى القرى، لا فرق في المعاناة سوى بمقدار الانقطاع والخذلان، انقطاعات الكهرباء، نقص الوقود، رداءة الخدمات الطبية، وغياب العدالة في توزيع الثروات، كل ذلك يشكل جزءًا من الحياة اليومية للمواطن الليبي.

ولم يعد السؤال لماذا نعيش هذا الواقع؟ بل.. إلى متى سنظل نعيشه؟

فبينما تحتكر قلة من المتنفذين المال والقرار، يعيش ملايين الليبيين على الكفاف، يكتفون بالفتات، ويحرمون من أبسط حقوقهم في وطنهم الغنى.

إن المال العام في ليبيا لم يعد شأنًا وطنيًا، بل غنيمة موزعة في غرف مغلقة، الاعتمادات تمنح للمحسوبين، والعقود تفصل على مقاسات بعينها، وتصرف المليارات دون رؤية، ولا مردود.

لا رقابة فعالة، ولا محاسبة حقيقية، الفساد لم يعد مجرد تجاوزات فردية، بل أصبح بنية متجذرة، تضمن بقاء النخب الناهبة، وتقصي كل من يطالب بالشفافية أو العدالة.

وفي ظل هذه المنظومة، يتكون نظام طبقي جديد، أقلية تملك كل شيء، وأكثرية لا تملك شيئًا سوى الأمل المعلق على ناصية المجهول.

لقد تحولت ليبيا من دولة ريعية تخدم شعبها، إلى سوق مفتوحة تدار فيها مقدرات الشعب من خلف الكواليس، وأصبح النفط مصدر الحياة الاقتصادية، مطية لمصالح ضيقة، ومجالا لتقاسم النفوذ، بين أطراف متعددة، بينما المواطن لا يرى من تلك الثروة سوى ارتفاع الأسعار، والتضخم، ونقص الخدمات.

وفي هذا المشهد الذي يفتقد الثبات، برز دور القوات المسلحة العربية الليبية والقيادة العامة كحامل لمشروع الاستقرار الحقيقي، لم يكن دورها محصورًا في الدفاع عن الأرض فحسب، بل اتسع ليشمل مكافحة الإرهاب، وحماية الثروات، وحفظ الأمن، وتقديم يد العون للمواطنين في أصعب الظروف.

في وقت كانت فيه مدنٌ كبرى ترزح تحت سيطرة الإرهاب، تقدمت القوات المسلحة، بتضحيات جسام، لتحرير بنغازي ودرنة وسرت وغيرها، وأعادت للدولة سيادتها، وللمواطن كرامته، وللأرض هدوءها.

كانت حربها حربًا من أجل الوطن، لا من أجل سلطة، وكان قتالها مشروعًا وطنيًا جامعًا، وليس مغامرةً سياسية عابرة.

وبعد أن سكت الرصاص، لم تعد القيادة العامة إلى الثكنات فقط، بل واصلت دورها في إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وباشرت في خطة إعمار كبرى، شملت مشاريع البنية التحتية والمطارات ومشاريع إسكانية وصحية وتعليمية وزراعية كبرى.

وفي الجنوب الليبي، حيث طال الإهمال، كانت القوات المسلحة الحاضنة الأخيرة لأمن المواطنين، فأمنت الحدود، وواجهت شبكات التهريب، وقدمت الدعم في غياب واضح للدولة المركزية.

وفي أوقات الكوارث، السيول، والأزمات، كانت القوات المسلحة أول من حضر وآخر من غادر، تقدم الغذاء والدواء والوقود، وتعيد تشغيل محطات الكهرباء، وتنقل المرضى، وتفتح الطرقات المقطوعة.

دورها امتد إلى ما وراء السلاح، ليصل إلى وجدان المواطن، كقوة وطنية تقف إلى جانبه لا فوقه، وتخدمه لا تستغله.

أما الدولة الليبية، في صورتها السياسية، فلا تزال غارقة في الانقسام والجمود: حكومتان، مصرفان مركزيان، ميزانيات مجزأة، وقرارات تتخذ لمصلحة من يملك لا من يحتاج.

ووسط هذه الفوضى، يغيب المشروع الوطني الجامع، وتنسى أولويات الشعب، ويختزل الوطن في صفقة أو مؤتمر أو حوار جديد، لا ينتج شيئًا سوى المزيد من الوقت الضائع.

لكن الرهان الحقيقي، اليوم، لم يعد على من يملك الكلمة، بل على من يملك الإرادة، والمؤسسة العسكرية، رغم كل ما تواجهه من تحديات، أثبتت أنها الركن الأكثر صلابةً في جسد الوطن المترنح.

ولأن ليبيا تستحق، فإن الرهان يجب أن يكون على بناء دولة قوية، عادلة، آمنة، يكون فيها القانون فوق الجميع، والفرصة متاحة لكل مواطن، والثروة موزعة بعدالة.

ولأن المؤسسة العسكرية قدمت التضحيات ورفعت الراية في أحلك الظروف، فإنها الأجدر بأن تكون الضامن الحقيقي لمستقبل لا يقصي أحدًا، ولا يميز بين ابن المدينة والقرية، ولا يضع الشعب في مؤخرة الحسابات.

فليبيا، الوطن الكبير، لا تليق بها الفوضى، وليبيا المواطن، لا يستحق أن يعيش منسيًا في ظل دولة غنية.

آن أوان التغيير الحقيقي، وأول الطريق يبدأ من إنصاف المواطن، وحماية من نذروا أنفسهم ليبقى الوطن. 

زر الذهاب إلى الأعلى