مقالات الرأي

بين هجر المكتبات وصحوة الوعي 

بقلم/ المهدي الفهري

العلاقة بين الكتاب والإنسان علاقة حميمة وقديمة وعلاقة تأسيس ورسوخ لا بديل عنها، وللقراءة سلطة وحظوة ظاهرة لا يملكها غيرها، وما أجمل أن نقرأ وأن نُحرض الآخرين على القراءة ونُظهر قيمتها للجميع، فهي مفتاح الحرية وبوابة النهضة ومنقذ الأمة من أزماتها المتمثلة في هجر الكتاب وغياب الوعي، والكتاب هو جواز العبور إلى السعادة والتقدم وسلاح الأمم في معركة البناء والبقاء، ولا يمكن لأي مجتمع أن يحقق تقدمًا أو تحررًا حقيقيًا من دون القراءة فهي المدخل الأول للوعي والشرط الأساس للمعرفة والتألق، وهي منجز حضاري وممارسة أساسية لتهذيب السلوك وإعادة تشكيل الوعي الفردي والجماعي، وهي الأساس الغائب في مشروع النهضة، ولا سعادة تضاهي سعادتها عند القراء الذين يجدون في القراءة عملية فكرية ومعرفية لتحفيز الذهن وتنشيط العقل ويجدون في الكتاب عالمًا رحبًا من الأفكار والمعاني التي تساعدهم على التركيز وإحياء الذاكرة والقدرة على التثقيف، وما أسمى أن نستثمر إجازاتنا وأوقات فراغنا في المطالعة وصقل الذات.

إن تحرير النفس لا يقل أهمية عن تحرير الأرض وأن نرتقي بوعينا وفهمنا وإدراكنا ونعزز من قدرتنا على التفكير السليم ونجعل من المكتبات معابد ومنابر للمعرفة ومنارات للبحث والابتكار، فبلادنا عميقة وتزخر بالكثير من الطاقات الإبداعية والأسماء الثقيلة التي لم نُحسن تقديمها واستخدامها في مواجهة تحديات العصر.

إن ما نشهده اليوم من عزوف واسع عن الكتاب لصالح وسائل الترفيه السريعة والتواصل الرقمي مع وفرة الكتب وسهولة الوصول إليها يمثل تراجعًا خطيرًا في سلم الاهتمامات وخللا بائنا في ترتيب الأولويات لمجتمع يعيش على الأمل بلا عمل، ويحيا حالة من الاكتئاب مقرونة بالشجن والألم، ويبكي على الأطلال ولم يفكر في الحلول ويعالج الخطيئة بالخطيئة، ولواقع صارت فيه المعرفة سلعة ولم تعُد فكرة أو ثقافة بالمجان مما يُفرغ العقل من تحسين وظائفه الحسية والنقدية ويغلق أمام الفرد إمكانات التطور الفكري والروحي ويوصد نوافذ الوعي بحدودها الإبداعية والمعرفية.

الكتاب وعاء للمعرفة والثقافة بما يحمله من تراكم معرفي ورؤى جديدة ومتجددة لا يمكن أن يضاهيه أو ينافسه في ذلك أي بديل آخر، ولقد أدرك أسلافنا الأوائل قيمة الكتاب فجعلوه خير جليس وأوفى رفيق، ومنحوه المكانة التي يستحقها في الثقافة والوجدان وتغنوا به في أشعارهم وأذكارهم وانتصروا بعلومه على خصومهم وحرصوا على ترجمته ونشره فصعدوا به فوق الأمم وخلدوا حضاراتهم في ذاكرة التاريخ، ولم تعرف مجتمعاتنا طريق التدحرج إلا حين هجرت الكتب وتخلت عن الكتابة وأهملت المكتبات وتبنت طوعا أسلوب الحياة الروتينية السهلة الخالي من التفوق والتميز والإبداع.

اليوم ليست العودة إلى الكتاب خيارا ثقافيا فحسب، بل هي ضرورة تنموية وتاريخية ووطنية لفتح أبواب المعرفة والحداثة واستعادة زمام المبادرة الحضارية وإعداد جيل يتمسك بالقراءة ويقدس الكتاب والكتابة ويضع البحث والاكتشاف في أولى اهتماماته، فبالعلم وحده تقاس قوة الشعوب وتقدمها وبصحوة الوعي يتعمق الفهم ويتغير السلوك وتُفتح أمام الإنسان آفاق الحرية والمسؤولية، ويصبح أكثر قدرة على أداء رسالته في الحياة بصدق وبمهارة وبسلام، ويحقق معنى وجوده على نحو يليق بكرامته ويسمو بإنسانيته كإنسان حر دون أحزمة شد من أي جهة وبلا أي عوائق أو قيود.

زر الذهاب إلى الأعلى