مقالات الرأي

الفكر العربي بين الاغتراب والوعي النقدي والتجديد

بقلم/ فوزية مراد

من الجدير بالذكر أن أزمة الفكر العربي ليست معطى يمكن إدراكه عبر اختزال أو تعميم، بل إنه بنية مركبة تتداخل فيها المستويات المعرفية والرهانات التاريخية والتصورات الرمزية. وفي هذا المقال نرصد نموذجًا من نمط متكرر في بنية الفكر العربي، يتمثل فيما يعرف بـ (الانفصال المزدوج)، حيث ينفصل الفكر عن واقعه المعيش من جهة، وعن جذوره التاريخية من جهة أخرى، ففي هذا السياق تظهر بعض أطروحات الإنتلجنسيا العربية انفصالًا نسبيًا عن قضايا الشعوب وهمومها، حيث يفضل بعض المثقفين الانكفاء في دائرة التنظير المجرد، بلغة متعالية ومفاهيم مستعارة من سياقات مختلفة، يصعب على الجمهور العام التفاعل معها. 

 إن حديثنا هنا ليس تعميمًا أو إدانة جماعية، فالنخبة الفكرية العربية ليست كتلة صماء، إذ من غير المنصف أن يختزل المشهد الثقافي العربي كله في هذا النموذج فقط، فكما يشير أنطونيو غرامشي، هناك نموذج آخر رفض الانخراط في دوامة الاستقطاب الأيديولوجي التي تفرزها الثنائية، (أقصد بالثنائية هنا: إما استحضار الماضي ومحاولة تشكيل الواقع وفقًا لقواعده وإمكانياته، أو القفز على التاريخ أو إلغائه للحاق بالغرب وذلك باعتماد نظرياته وتعميماته وحتى قوانينه)، فإننا لا يمكننا تجاهل هذه الوجوه الفكرية النزيهة والشجاعة، التي قدمت حياتها ومواقفها دفاعًا عن قضايا الإنسان وحريته من أمثال: مالك بن نبي، محمد عابد الجابري، طيب تيزيني، هشام جعيط، صادق جلال العظم، هادي العلوي، وفرج فودة، والنيهوم، وغيرهم، وإذا كانت طبيعة الفلسفة تتسم بالدقة في التعبير عن ذاتها والحرص في الوقت نفسه على التمييز بين من يخالفها والتعبير عنه أو نقده فإن الملاحظة النقدية تتوجه هنا إلى جزء من النخبة، الذين اختاروا الفصل بين التنظير والفعل، أو اعتمدوا على مفاهيم أيديولوجية لم توضع حيّز المساءلة النقدية، فصار ذلك جزءًا من المشكلة لا من الحل. 

 ومما تجدر الإشارة إليه أن الأيديولوجيا قد أدت بوصفها شكلًا من أشكال الوعي الاجتماعي، دورًا ملتبسًا في مسار الفكر العربي المعاصر، فغالبًا ما استخدمت الأيديولوجيا إمّا بصيغ مستوردة لم تخضع لتأويل ونقد، أو بصيغ موروثة لم تعرف التجديد، ما أنتج وعيًا زائفًا مشوهًا عمّق الهوة بين الفكر والمجتمع، وعطل تشكّل الوعي التاريخي المتماسك، ويزداد عمق هذه الهوة حين يصبح الخطاب الأيديولوجي السائد بعيدًا عن الواقع الاجتماعي الملموس، ومفروضًا من خارجه، فاقدًا بذلك قدرته على الفاعلية والتأثير الحقيقي فيه.

تكمن الأزمة الفكرية إذن من حيث المبدأ في غياب مشروع فكري نقدي قادر على مساءلة الأطر الأيديولوجية وكشف تحيزاتها البنيوية، وقد نبه إلى هذه المسألة المفكر عبد الله العروي حين ميّز بين الأيديولوجيا حين تكون أداة لفهم الواقع والسعي إلى تغييره، وحين تتحول إلى خطاب مغلق يفرض نماذجه على الواقع بدلًا من أن ينبثق منه، ومن هنا تتطلب العودة إلى هذه المفاهيم وقفة نقدية دقيقة تتجاوز مجرد استعادة الماضي. 

إن السجال الأيديولوجي لم يقتصر على معركة بين الماضي والحاضر، بل تجلى أيضًا في انقسام ثنائي ظل يهيمن على التفكير العربي، على نحو: استدعاء الماضي دون نقد، أو تقليد الغرب دون فهم سياقه، وهذا الانقسام يفرز نمطًا من التفكير المعطوب، الذي يعيد إنتاج التبعية أو الانغلاق، ويقصي إمكانات بناء فكر نقدي ينبثق من شروط الواقع العربي المعاصر. 

ما نود التنويه إليه في الختام: إن تجاوز أزمة الفكر العربي تستلزم أن ننخرط في مشروع نقدي تاريخي، يتجنب الثنائية المعيقة بين الماضي والغرب، ويؤسس لتفكير واقعي، ومركب، إذ لا يكفي أن نفكّر في حاضرنا بأدوات الماضي، ولا أن نستعير مفاهيم الآخرين دون مساءلة. بل علينا أن نعيد وصل الفكر بالفعل، والمفهوم بالواقع، والتاريخ بالمستقبل، فالفكر العربي لن يستعيد عافيته إلا حين ينصت إلى ذاته، لا بوصفها معزولة، بل بوصفها جزءًا من عالم متغير، يتطلب عقلًا نقديًا ومسؤولًا يجيد التفكيك كما يجيد البناء.

زر الذهاب إلى الأعلى