مقالات الرأي

أوهام تصنعها أوهام!

بقلم/ مصطفى الزائدي

من خصائص بعض البشر تشبّثهم بأشياء يصنعونها من وحي خيالهم، ويرون فيها حلًا لكل مشاكلهم. وتتجلّى هذه الظاهرة في أوضح صورها في الديانات القديمة، حيث يصنع الناس آلهةً في الأرض أو في السماء يعبدونها ويتوسّلون إليها، ويقتنعون أنها قادرة على حمايتهم وتأمين حياتهم وإبعاد الشر عنهم وجلب الحظ لهم.

آلهة الإغريق الخيالية المتعددة نماذج واضحة لتلك الأوهام التي روتها أساطيرهم. وكذلك الحال عند البابليين والآشوريين، أما عند الفراعنة فتمثّل الوهم في الإله آمون ومن بعده رع، وتشكل في رمزية الملوك الفراعنة الطغاة الجبارين، وعند الشعوب الوثنية صُنعت آلهة من الطين والحجر وأحيانا التمر، يتمسحون بها ويطوفون حولها.

كلٌّ يصنع الإله كما يراه ويتصوره، مجسدًا في بيته أو معلقًا كتميمة في رقبته.

وتجسّد الوهم أيضًا عند التائهين في الصحاري عندما يرون السراب، فيعتقدون أنه ماء، فيهرعون إليه ليرووا ظمأهم.

في عالم السياسة الحديثة تجسّد الوهم في صورة المستعمر، الذي خُيِّل إلى البعض أنه يؤمّن البقاء وييسّر الحياة ويعمر الأرض ويقيم البنيان، لقد أخبرنا التاريخ الاستعماري أن كثيرًا من الناس ساعدوا المستعمر متوهمين أنه رسول من السماء جاء لينقذهم من شظف العيش، يتضح ذلك في قصص استعمار الأوروبيين للعالم الجديد، وكيف استقبلهم الهنود الحمر البسطاء بالذهب والفضة، وما إن تمكنوا منهم حتى قضوا عليهم.

إن حالة الوهم تؤدي إلى شكل من أشكال العمالة وتصبح أداة لتدمير الأوطان، هذا إذا افترضنا حسن النية عند بعض العملاء، وأنهم لم يقترفوا جرائمهم إلا بدافع من أوهام تسللت إلى عقولهم. 

في الحالة العربية عمومًا والليبية خصوصًا يسيطر الوهم على مجريات الأحداث، فالجميع ينتظر أمرًا مجهولًا يصنعه مجهولون، وهذا يفسر التفاعل مع ما سُمّي بالربيع العربي الذي استخدم عنوانا وهميا للتدخل العسكري الأجنبي في البلاد العربية، بدءًا من احتلال العراق وإسقاط نظامها وتدميرها، تحت وهم “التحرير من الدكتاتورية” و”الانتقال من التخلف إلى الازدهار”، وصولا إلى إسقاط الدولة السورية وتسليمها إلى منظمات إرهابية متكونة من مرتزقة من كل أصقاع الأرض، ورغم أن النتائج كانت عكس ما بشر به الواهمون تمامًا، فإن البعض ما زالوا يرددون، “إن الأفضل قادم”، ويُذيّلون بهذه العبارة كل منشوراتهم وكتاباتهم، تمامًا كما كان يُقال “العراق حرة، ليبيا حرة، سوريا حرة… إلى آخره..”.

في ليبيا طيلة خمسة عشر عامًا من الفوضى المبرمجة، التي أدت إلى تدمير كافة مقومات الدولة وتخريب المنجزات الاقتصادية والاجتماعية في مجالات الزراعة والصناعة والتعليم والصحة والضمان الاجتماعي والطاقة والاتصالات والنقل والتي بنيت خلال عقود التحرر من العدم تقريبا حتى صار الناس وقتها متساوين في الحياة من القطرون حتى البيضاء وصبراتة، ما زال البعض يتوهّم أنهم يبنون مجتمعًا جديدًا! مع أنهم لم يستكملوا بعد تخريب ما تبقى من تلك الإنجازات والتي لولاها لكان الليبيون أكثر بؤسًا مما هم عليه الآن، وكثير من النخب السياسية لا يزالون ينتظرون حلولًا سحرية مما يُسمّى بـ”المجتمع الدولي”، الذي تدخل بقوة السلاح لتدمير البلاد وإسقاط نظامها واستقرارها.

طوال هذه المدة، ومع تغيّر مبعوثي الأمم المتحدة عشر مرات، ما زال الكثيرون يستمعون بشغف إلى الإحاطات المتكررة التي يقدمها المبعوثون في جلسات شكلية لمجلس الأمن، الوصي عمليًا على ليبيا بموجب قرارات جائرة صادرة تحت الفصل السابع، ولا يزال كثير من النخب يتوهّمون أن المجتمع الدولي جاد في تمكين الليبيين من بناء سلطات تنفيذية وتشريعية بإرادتهم وخارج نطاق تدخل الدول النافذة في العالم، رغم أن ذلك محض خيال، فهدف ما يسمى المجتمع الدولي الأساس هو إسقاط الأنظمة الوطنية واستبدالها بأدوات عميلة بسيطة التفكير معدومة القدرات، تدير البلدان لمصالحهم وليس لمصالح شعوبها.

ومن الوهم أيضًا ألَّا يرى الناس المخاطر الحقيقية المحدقة بهم، تمامًا كالمريض الذي لا يرى مرضه حتى يستفحل ويقضي عليه. فهو يدرك طبيعة الأمراض وخطورتها ونتائجها، لكنه يتوهّم أنه في مأمن منها! وحتى إن ظهرت بعض الأعراض، يتوهّم أنها بسيطة وستمر بلا آثار.

بعد نكبة “الربيع العربي” التاريخية، التي لم يسبقها إلا نكبات الاستعمار والحروب الصليبية، والتي هدفت إلى إلغاء الوجود العربي والإسلامي كدول وكيانات واستبداله بدولة دينية يهودية تسيطر سياسيًا واقتصاديًا على المنطقة تشكل نقطة هيمنة ميدانية للغرب في تكرار للاستعمار الاستيطاني والإمارات الصليبية، ما زال كثيرون يتوهّمون أن الخطر بعيد الوقوع، بالرغم من أن ترتيباته تجري على قدم وساق، ورغم أن مجرم الحرب نتنياهو صرّح به رسميًا وعلى الملأ بلا خجل ولا وجل!

في ليبيا لا يدرك الواهمون خطورة مشاريع التقسيم والتوطين، رغم أنها تُنفّذ على الأرض بخطوات متسارعة جدًا.

إن مشكلتنا يمكن اختصارها في “الواهمين والوهميين”، فهم داء عضال لن يستقيم الجسد إلا باستئصاله كليًا.

زر الذهاب إلى الأعلى