مقالات الرأي

النفط الليبي.. بين الوفرة والضياع

بقلم/ عثمان الدعيكي

منذ اكتشافه في أواخر خمسينيات القرن الماضي يشكل النفط في ليبيا الركيزة الأساسية للاقتصاد الوطني، إذ تحول إلى المورد الريعي شبه الوحيد الذي تمول به الميزانية العامة. ورغم امتلاكها واحدًا من أكبر الاحتياطيات المؤكدة في إفريقيا، حيث تشير بيانات تقرير BP Statistical Review 2023 – وهو تقرير إحصائي سنوي تصدره شركة بريتش بتروليوم BP- إلى نحو 48.4 مليار برميل بما يعادل 3‎%‎ من الاحتياطي العالمي، إلا أن غياب الرؤية الاستراتيجية جعل هذه الثروة مصدرًا للهشاشة أكثر منها عامل قوة، فالميزانية العامة ظلت رهينة تقلبات أسواق الطاقة وأسعارها المتذبذبة. 

وتؤكد المؤسسة الوطنية للنفط أن الطاقة الإنتاجية يمكن أن تصل إلى ما بين 1.8 و2 مليون برميل يوميًا إذا ما توافرت الاستثمارات واستقر الوضع السياسي والأمني، غير أن الإنتاج الفعلي في السنوات الأخيرة لم يتجاوز 1.1 إلى 1.3 مليون برميل يوميًا، وهو مستوى يعكس أثر الانقسام السياسي وضعف الاستقرار المؤسسي. وإذا ما افترضنا ثبات الإنتاج عند 1.5 مليون برميل يوميًا فإن الاحتياطيات الحالية تكفي نظريًا لما يقارب 88 عامًا، غير أن هذه القراءة الكمية قد تكون مضللة إذا لم توضع في سياق التحولات العالمية في مجال الطاقة، إذ تشير تقارير وكالة الطاقة الدولية إلى أن الطلب العالمي على النفط سيتراجع تدريجيًا بعد عام 2040 بفعل سياسات الحياد الكربوني، وهو ما يعني أن القيمة السوقية للنفط الليبي قد تتآكل قبل أن ينضب فعليًا.

وبالرجوع إلى محاولات تنويع مصادر الدخل نجد أن ليبيا شهدت في العقود الماضية عدة مبادرات، أبرزها الخطة الخمسية للتنمية في السبعينيات وما تلاها من برامج للزراعة والصناعة والتصنيع الحربي، فضلًا عن مشروع النهر الصناعي العظيم الذي استهدف دعم القطاع الزراعي. كما أنشئت مناطق صناعية واستثمرت الدولة أموالًا ضخمة عبر المؤسسة الليبية للاستثمار. غير أن هذه المشروعات لم تحقق النتائج المرجوة، إذ اصطدمت بعقبات مؤسسية وإدارية، من ضعف الكفاءة وسيطرة البيروقراطية إلى غياب الشفافية، وهو ما جعل العديد منها يخضع لاعتبارات سياسية أكثر من كونه استثمارًا اقتصاديًا مدروسًا. وهكذا بقيت البلاد بلا قاعدة إنتاجية قادرة على تقليل الاعتماد على النفط.

وفيما يخص الإدارة المالية، فإن النمط المتبع اتسم بالريعية المطلقة، حيث شكّلت العوائد النفطية أكثر من 90‎%‎ من الإيرادات العامة، بينما استحوذ الإنفاق الجاري على النصيب الأكبر وخاصة في الفترة ما بعد 2011. 

ويظهر تقرير مصرف ليبيا المركزي لعام 2022 أن فاتورة المرتبات والدعم التهمت أكثر من 70‎%‎ من إجمالي الإنفاق العام، في حين لم تتجاوز حصة الإنفاق الاستثماري 10‎%‎, وهو ما يعكس انحياز السياسات المالية نحو الاستهلاك قصير الأجل على حساب الاستثمار طويل المدى. وقد أسفر هذا الوضع عن إضعاف واضح للحوافز الاقتصادية في قطاعات أخرى، بما يشبه ما يُعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ”المرض الهولندي”، حيث يؤدي تدفق الريع النفطي إلى تراجع الاهتمام بقطاعات الزراعة والصناعة والسياحة. فرغم امتلاك ليبيا أكثر من 2.2 مليون هكتار صالحة للزراعة، لم تتمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب والخضراوات، كما أن موقعها الجغرافي المتميز وساحلها الممتد على أكثر من 1900 كيلومتر ومخزونها الأثري الكبير لم يتحول إلى صناعة سياحية ذات قيمة مضافة، فضلًا عن أن قطاع الطاقة المتجددة ظل مؤجلًا رغم أن البلاد من أكثر مناطق العالم إشعاعًا للطاقة الشمسية بما يزيد على ثلاثة آلاف ساعة سنويًا.

وهكذا بدلًا من أن يكون النفط رافعة للتنمية تحول إلى مصدر هشاشة مالية، حيث اعتمدت الموازنة العامة على سلعة تتسم بتقلبات حادة في الأسعار. ومع غياب صندوق سيادي فعال ومستقل قادر على استثمار الفوائض النفطية للأجيال القادمة، لم تستفد ليبيا من تجارب دول نفطية أخرى مثل النرويج أو الكويت التي نجحت في تحويل العائدات إلى رصيد استراتيجي مستدام. 

إن استمرار هذا النمط من الإدارة لا يعني فقط استنزاف الثروة النفطية، بل أيضًا إضاعة فرصة تاريخية لتأسيس قاعدة اقتصادية متينة ومتنوعة قادرة على الصمود أمام التحولات العالمية. فالتحدي الحقيقي أمام الليبيين اليوم لا يكمن في عدد السنوات التي سيظل النفط فيها موردًا متاحًا، بل في صياغة رؤية اقتصادية جديدة تعيد هيكلة المالية العامة وتقلص الاعتماد على الإنفاق الجاري، مقابل توسيع قاعدة الاستثمار في القطاعات الإنتاجية وتبني سياسات لمواجهة التقلبات والدورات النفطية، فضلًا عن إنشاء صندوق سيادي يدار بالخبرات لا بالولاءات. فالثروة النفطية، مهما بدت وفيرة، ليست إلا نافذة زمنية محدودة، إن لم تُستغل بحكمة قد تتحول إلى عبء تاريخي يورث الأجيال المقبلة اقتصادًا هشًّا بلا بدائل.

زر الذهاب إلى الأعلى