الفقر الثقافي وحرمان المثقف

بقلم/ عبدالله ميلاد المقري
يمثل الإنتاج الفكري والأدبي والفني عبر تاريخ الأمم التي كانت تتسابق على رعاية هذا الإنتاج وخلَّدته عبر إرث ثقافي، رصيدًا حضاريًّا يعكس هوية الشعوب وعمقها الثقافي، محفوظًا في ذاكرتها ومثبتًا في قيمها التي تتباهي بها في إحياء الوجدان الوطني. هذا الإنتاج يشمل النصوص الأدبية والفكرية، والأعمال الموسيقية، والفنون التشكيلية، وأداء الممثلين والمطربين، ليأخذ شكلًا إبداعيًّا مراعيًا لخصوصيته دون المس به أو تشويهه.غير أن هذا الرصيد المعرفي يظل معرَّضًا للسطو إذا غابت الحماية القانونية الفاعلة أو تعطلت آليات تطبيقها. وفي الفكر الإنساني برزت مدرستان؛ الأولى تؤكد أن حق المؤلف والفنان مطلق، ويجب حمايته وتجريم كل أشكال النسخ أو التقليد أو النشر غير المشروع، أما الثانية فترى أن الإبداع إرث إنساني ينبغي نشره على نطاق واسع مع التوفيق بين حقوق المبدع وحق المجتمع في المعرفة.
وقد عبّر طه حسين عن موقفه بوضوح حين أكد أن الاعتراف بحق المؤلف والفنان ضرورة أساسية ينبغي أن تكفلها القوانين.وفي ليبيا، التي نهتم بها من أجل أن يعود وعي بعض من يهدم مقوماتها، خاصة الاعتداء على موروثها الثقافي العروبي الهوية، ورغم وجود قانون يحمي الملكية الفكرية، فإن الواقع الثقافي يعاني فقرًا واضحًا سببه غياب الدعم المؤسسي، والانقسام السياسي، والفوضى التي أدت إلى انكماش حركة التأليف والترجمة، وتراجع النشاط المسرحي، وغياب المسابقات الأدبية والفنية.هذا الواقع لا يحرم المؤلف والفنان من فرص عرض أعمالهم فحسب، بل يقلل أيضًا من حافزهم على الإبداع، ويجعل الحماية القانونية بلا مضمون فعلي.
إن إحياء المشهد الثقافي الليبي يتطلب خطة شاملة تدعم التأليف والترجمة والنشر، وتنشط المسابقات الأدبية والفنية والمسرحية، وتفتح أبواب المعارض للفنانين التشكيليين، وتوفر منصات للموسيقيين والممثلين، وتشجع الورش التدريبية وحاضنات المواهب.فعندما تتوفر بيئة ثقافية نابضة، يصبح لحقوق المؤلف والفنان معنى فعلي، وتتحول القوانين من نصوص جامدة إلى درع يحمي الإبداع، ويدفع بالمجتمع نحو نهضة ثقافية حقيقية. فالحقوق لا تنفصل عن الواجبات، وحماية المؤلف والفنان تبدأ من حمايتهم من التهميش، ومنحهم المساحة التي يستحقونها للإبداع، قبل أن تكون مجرد مواد قانونية لا تغادر الأدراج.
وجود حركة ثقافية متسارعة مرتبطة بوعي من يدير ويشرف على الحركة الثقافية يجب ألا تخضع للصراعات السياسية والمعارك خارج مصلحة الوطن، وحاجة المواطن لدولة سيادة مستقلة تهتم بالشأن الثقافي وترعى الحركة الثقافية الشبابية لتواصل ذاكرة الشعوب وإحياءها للفكر والآداب من مخزون الماضي الذي يتماشى مع الحداثة وحرية التعبير الفكري رمزًا وشمولية ضمن الإنسانية.فكلما راعت الأمم اهتمامها بالزاد الفكري، اختفت الأحقاد والحروب والنزاعات بين البشر، فالدعم الثقافي والاهتمام بالآداب والعلوم والفنون يهذب سلوك الناس لصالح البشرية.