الجوع والمرض والذل.. أعداء الإنسان

بقلم/ علي المبروك أبوقرين
غادر الموسيقار والشاعر الكبير زياد الرحباني وترك فينا ما يصوّر ما مر ويمر علينا، وما عشناه ونعيشه وعاشه أهلنا. حياتنا في بداياتنا، ومن قبلها حياة آبائنا، كانت قاسية، لا تخلو من الجوع والمرض وذل الحاجة والاستعمار. وفي الفقر والمجاعات وغياب الخدمات الصحية والحماية الاجتماعية، كان الناس يموتون جوعًا ومرضًا.
والأسوأ من ذلك حين تموت الناس ليس لعدم توفر الطعام والعلاج، بل لموت الضمير والحس الإنساني، والافتقار للحكمة، والإفلاس القيمي، والانحطاط الأخلاقي. فلو كانت القيم الأخلاقية راسخة، والضمير حيًّا، لما تُرك إنسان يموت جوعًا أو مرضًا في عصر الوفرة والتكنولوجيا والتواصل الفوري، ولما استمر الإهمال والاستغلال والتجويع والإذلال للفئات العفيفة الفقيرة والمهمشة والضعيفة، التي للأسف تتسع بفقدان الرحمة وانعدام الإنسانية، مما يجعل مأساة الناس تتعاظم وتشتد.
وبهذا يكون المرض والمجاعة الحقيقية ليسا في نقص الدواء والغذاء أو غلائهما، بل في الأيادي التي تمنع وصولهما والحصول عليهما. وبالضرورة تتزامن المجاعة الغذائية والصحية، ويموت الناس لغياب أو غلاء الطعام، أو لعدم القدرة على الشراء والاقتناء، أو لغياب أو منع الدواء مع توفر الموارد وتضاعفها. ولكن، لغياب الضمير والحكمة وفساد الأنفس، ينعدم الإحساس بالمسؤولية، ويصبح التعامل مع حياة الناس فرصة للتربح والثراء، وتغيب كليًا السياسات العادلة التي تحمي المجتمع وتضمن حق العلاج كما تضمن حق الغذاء.
ويصبح الجميع – باستثناء القادرين والنافذين – أمام حقيقة مرة، وهي القتل بالإهمال أو الحرمان أو البطء المتعمد. والنتيجة: الموت جوعًا أو الموت مرضًا، وفي الحالتين جريمة مكتملة الأركان، حين يباع الدواء بما لا يملك المريض، ويتوفر الغذاء بما يفوق القدرة، ويُجبر الناس على قدر إمكانياتهم البسيطة التي لا تسمح إلا بالنزر القليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يشفي من مرض.
وللأسف، لم يعد المرض وحده عدو الإنسان، بل غياب العلاج رغم توفره، وتحول الصحة من رسالة إنسانية إلى تجارة ارتزاقية. والدواء موجود لكنه يغرق السوق بالمغشوش والمنتهي الصلاحية، والكوادر الطبية تتكاثر ولكنها حُرمت من التدريب والحصول على فرص تعليمية جيدة، وغرقت الأجيال في سوق التعليم الطبي التجاري. والمستشفيات التي كانت صروحًا للعلاج تحولت إلى ساحات للمقامرة على حياة الناس، والمريض يموت لأن هناك من حجب عنه الدواء، أو قدّم له علاجًا مسمومًا، أو سلّمه ليد جاهلة لا تعرف من الطب إلا اسمه، أو أرغمه على اللجوء إلى سوق لا يرحم، أو باعه وثيقة تأمين لا تنفع.
هذه ليست أزمة غذاء أو دواء أو كوادر أو مرافق، بل أزمة ضمير، وانهيار قيم، وإفلاس حكمة، وسقوط إنساني. ويعلم الجميع أن المسؤولية ليست ترفًا أو وجاهة، بل حياة أو موت، وأن كل من يملك القرار شريك. فغياب الرحمة والعدل والضمير والمسؤولية والحوكمة والمساءلة والشفافية، هو أصل كل مجاعة ومرض بلا علاج وغياب لكل حق في حياة كريمة.
الجوع يفتك بالإنسان، والمرض ينهك الجسد، والذل يقتل الروح.