مقالات الرأي

ليبياالمعادلة المعكوسة.. إيرادات تتراكم وعجوزات تتفاقم!

بقلم/ عثمان الدعيكي

تشهد ليبيا مفارقة اقتصادية صارخة، ففي وقت ترتفع فيه أسعار النفط عالميًّا حيث سجلت متوسط 85 دولارًا للبرميل خلال عام 2025، تُسجّل الميزانية العامة عجزًا تجاوز 5.3 مليار دولار خلال النصف الأول من العام الجاري، وفق بيانات رسمية صادرة عن وزارة المالية. هذا الرقم لا يعكس مجرد سوء إدارة الموارد، بل يكشف عن تداعيات انقسام سياسي عميق وفساد مستشرٍ وإنفاق حكومي غير خاضع للرقابة.

رغم أن ليبيا تمتلك أكبر احتياطي نفطي في إفريقيا يُقدّر بنحو 48 مليار برميل، وتعتمد على إيرادات سنوية تتراوح بين 20 و27 مليار دولار من صادرات النفط، فإن هذه الأموال تتسرب كما يتسرب الماء من إناء مثقوب. أموال تُهدر عبر رواتب وهمية تقدّر بنحو 2.5 مليون وظيفة أغلبها غير منتج، وعقود مشبوهة تفوق قيمتها ملياري دولار سنويًا، ودعم وقود غير موجه يكلف الخزينة أكثر من 7 مليارات دولار سنويا، في ظل غياب شبه تام للمحاسبة. الانقسام السياسي جعل كل طرف يسيّر ميزانيته بشكل منفصل، ما خلق ازدواجية في الإنفاق وفتح الباب أمام اختلاسات واسعة، فيما كشف ديوان المحاسبة أن أكثر من 30% من الإنفاق الحكومي يُصنف على أنه غير مبرر، بينما تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن تهريب النفط وحده يلتهم ما لا يقل عن 1.2 مليار دولار سنويًا.

انعكست هذه الفوضى المالية بشكل مباشر على حياة المواطنين. المستشفيات تعاني من نقص حاد في الأدوية والمعدات، مع عجز دوائي يصل إلى 60%. أزمة الكهرباء مستمرة بانقطاعات تصل إلى 12 ساعة يوميًا في بعض المدن، فيما لا تصل المياه بانتظام إلى أكثر من 40% من السكان. على الصعيد الاقتصادي، تجاوز سعر الدولار في السوق السوداء 7 دنانير مقابل 4.85 في السوق الرسمي، ما أدى إلى تضخم سنوي يقدّر بـ35% وارتفاع كبير في الأسعار. حتى الرواتب التي يعتمد عليها أكثر من 85% من الأسر باتت تُدفع متأخرة أو بشكل متقطع، ما زاد من الاحتقان الاجتماعي ورفع نسبة الفقر إلى 33% من السكان حسب تقديرات البنك الدولي.

الأمر الأكثر إيلامًا أن ليبيا، التي كانت تُصنف قبل 2011 من أغنى دول إفريقيا بمتوسط دخل فردي يناهز 12 ألف دولار سنويًا، أصبحت عاجزة عن توفير أبسط الخدمات بعد أن تراجع دخل الفرد إلى أقل من 5 آلاف دولار. خبراء اقتصاديون يرجعون ذلك إلى انتشار ما يُعرف بـ”اقتصاد المحاصصة”، حيث تحوّلت الدولة إلى غنيمة موزعة بين الميليشيات والجماعات السياسية، فيما تتسرب أجزاء من عائدات النفط إلى حسابات سرية خارج البلاد.

الحلول تبدو ممكنة إذا ما توافرت الإرادة السياسية، عبر خطوات فورية مثل توحيد الميزانية العامة تحت سلطة واحدة، وضبط الدعم غير الموجه، وإخضاع الصفقات الحكومية للرقابة، ووضع سقف للإنفاق الإداري والرواتب الوهمية، إلى جانب ضرورة تنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط. لكن في ظل غياب محاسبة حقيقية أو إصلاح جذري، تبدو ليبيا مهددة بالانتقال من دولة غنية بالنفط إلى دولة غنية بالديون، وقد تجد نفسها قريبًا على أبواب صندوق النقد الدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى