المثقف في زمن الفوضي حارس المعنى الأخير

بقلم/ فرج بوخروبة
في زمنٍ يضجُّ بالأصوات، يكاد يُفقد صوت المثقف الحقيقي. ليس لأنه صامت، بل لأن العالم صار يُصغي إلى غيره. فلماذا نحتاجه الآن أكثر من أي وقت مضى؟
العالم اليوم لا يعاني من نقص في الكلام، بل من فائضٍ قاتلٍ في الصوت. كل من يملك هاتفًا ذكيًّا يمكنه أن يُصدر رأيًا، أن يُعلِّق على الأحداث، أن يُدين، أن يُبرِّر، أن يُطلق شعارات تُشبه الحكمة، لكنها في جوهرها لا تتجاوز صدىً مُعادًا تدويره. في هذا الفوضى الصوتية، يختفي المثقف الحقيقي ليس لأنه صامت، بل لأن صوته لا يُسمع في زحمة الضجيج.
لكن لماذا نحتاجه الآن أكثر من أي وقت مضى؟
لأن المعرفة لم تعد مجرد امتلاك للمعلومة، بل أصبحت قدرة على التمييز. لأن الحقيقة لم تعد تُكتشف بالبحث في قاعدة بيانات، بل تُستعاد من خلال التأمل في المسارات، في السياقات، في الخلفيات التي لا تظهر في العناوين. ولأن الإنسان المعاصر، رغم اتصاله بكل شيء، بات أكثر عزلةً من حيث الفهم. يقرأ الملايين، لكنه لا يُفكر. يشاهد، لكنه لا يتأمل. يُشارك، لكنه لا يُسهم.
هنا تكمن المهمة الحقيقية للمثقف: ليس أن يُعلِّم الناس ماذا يفكرون، بل أن يُذكِّرهم كيف يفكرون. ليس أن يُقدم إجابات جاهزة، بل أن يُعيد إحياء السؤال. ليس أن يُجادل، بل أن يُصمت قليلًا، ليُتيح للآخرين أن يسمعوا أنفسهم.
في زمن تُختزل فيه الأزمات المعقدة إلى “تريندات” يومية، يصير المثقف ذلك الشخص الذي يرفض الاختزال. الذي لا يُسرع في الحكم، ولا يُبادر بالاتهام، بل يسأل: ما الذي أخفاه لنا هذا الحدث؟ من المستفيد من هذه القراءة السريعة؟ ماذا لو نظرنا إلى الظل بدلًا من الضوء؟
الثقافة اليوم لم تعد مجرد امتلاك للمعارف أو تراكم للقراءات، بل صارت مسافة تأملية بين الإنسان والحدث. هذه المسافة هي ما يُبقيه إنسانًا في عالم يُحاول باستمرار تحويله إلى مستهلك، إلى متابع، إلى رقم في تحليلات البيانات. المثقف، إذًا، ليس من يملك أكثر المعرفة، بل من يملك الشجاعة أن يشكِّك فيها.
وليس دوره أن يُضيء الطريق كما يُضيء المُرشد السياحي، بل أن يُطفئ بعض الأضواء الزائفة، لكي نرى ما كان مخفيًا في الظلام. ففي عصر تُقدَّم فيه التفاهة على أنها عمق، والسطحية على أنها وعي، يصير التنوير ليس فعلًا تبشيريًّا، بل مقاومة صامتة ضد التكيُّف مع السهل، ضد التطبيع مع الكذب، ضد إعادة تدوير الخطأ في هيئة “حقيقة بديلة”.
الثقافة الحقيقية لم تعد وسيلة للهروب من الواقع، كما كان يُظن في بعض الفترات، بل صارت الوسيلة الوحيدة لفهمه. ليست ثقافة الزينة، ولا ثقافة المُناظرات العابرة، بل ثقافة البصيرة: تلك التي تُعيد للكلمة قيمتها، وللصمت قدسيته، وللسؤال خطورته.
المجتمعات لا تنهض بكثرة الصوت، بل بقلة الأصوات التي تُحسن الإصغاء. والثقافة لا تُبنى بالتغريدات، بل بالتأني، بالقراءة المتأنية، بالكتابة التي تُكتب بعد أن تُفكِّر فيها ليلتين. المثقف الحقيقي لا يُزايد على الناس، ولا يقف على منصةٍ عالية ليُلقِّنهم الوعي، بل يجلس في الصف الأخير، يُصغي، يتألم، يُخطئ، ثم يُعيد البدء.
هو لا يملك الإجابات، لكنه يحمل في داخله سؤالًا لا يُطفأ. وربما هذه هي أعظم صفة يمكن أن يمتلكها إنسان في زمنٍ تُباع فيه اليقينات بثمن بخس.
في عصر يُعاد فيه إنتاج الخطابات القديمة بثياب رقمية، يصير التفكير العميق فعلًا ثوريًّا. أن تقرأ كتابًا كاملًا دون مقاطعة، أن تكتب فقرة دون أن تفكر في عدد الإعجابات، أن تُفكر في فكرة دون أن تُسرع إلى تطبيقها
كل هذا يصير تمردًا على ثقافة السرعة.
والمثقف، في هذا السياق، ليس من يُريد أن يُسمَع، بل من يُريد أن يُفهم. ليس من يُريد أن يُعجب، بل من يُريد أن يُوقظ. ليس من يُريد أن يُظهر نفسه، بل من يُريد أن يُظهر ما خفي.
في زمن تُحوَّل فيه الأفكار إلى سلع، تصبح الثقافة فعل تحرُّر. وتصبح مهمة المثقف هي حماية الزمن: زمن القراءة، زمن التأمل، زمن السؤال. لأنه في لحظة اختفاء هذه الأزمنة، يختفي معها الإنسان ذاته.
الحقيقة اليوم ليست ما يُقال، بل ما لا يُقال. ليست ما يُضخ في الشبكات، بل ما يُهمَس في الزوايا. والمثقف الحقيقي هو من يُجيد سماع الهمس، وتحويله إلى لغة تُفكك الغموض، لا تُعيد إنتاجه.
لقد تغيرت وسائل التواصل، لكن لم تتغير حاجة الإنسان إلى المعنى. بل ربما ازدادت. فكلما زادت المعلومات، زاد الشعور بالفراغ. وكلما اتسعت الشبكات، ضاقت المساحات الحقيقية للتفكير. ولهذا، نحن اليوم بحاجة إلى المثقف أكثر من أي وقت مضى: ليس كمُصلح، ولا كزعيم، ولا كنجم إعلامي، بل كـكائن تأملي يحمل في داخله قلق العصر، ويخاف عليه من التسطيح.
ليس المثقف من يملك المعرفة، بل من يشعر بمسؤوليتها. ليس من يُجيد الكلام، بل من يُجيد الصمت. ليس من يُريد أن يُغيِّر العالم بسرعة، بل من يُريد أن يُعيد تأسيس الوعي ببطء.
في النهاية، الثقافة ليست فعلًا يُمارس لمجرد الترف أو التباهي، بل هي شكل من أشكال المقاومة الوجودية ضد التفاهة، ضد التكرار، ضد التدمير الهادئ للعقل. وهي، في أوج بساطتها، ما يُبقي فينا القدرة على أن نُخطئ، أن نُعيد التفكير، أن نُغيِّر رأينا، أن نُحبَّ السؤال أكثر من الإجابة.
ولهذا، نحن بحاجة إلى المثقف. ليس لأنه يملك الحقيقة، بل لأنه يُذكِّرنا بأن الحقيقة لا تُستهلك، بل تُعاش.
وليس لأنه يُنير الطريق، بل لأنه يُوقظنا من سبات التكرار.
وليس لأنه صوتنا، بل لأنه صوتٌ آخرمختلف، مزعج أحيانًا، لكنه ضروري.