انتخابات المال والدم!!

بقلم/ مصطفى الزائدي
تشهد بعض انتخابات مجالس البلديات، رغم محدودية أهميتها وصلاحياتها، عمليات حرق وتفجير لمقار مفوضية الانتخابات، وحملات ترهيب وتوجيه من المجموعات المسلحة المسيطرة على البلديات، إلى جانب الدور المعلن للمال الفاسد في شراء الأصوات. ويعتبر البعض هذه الانتخابات مجرد عملية تدريبية استعدادًا لانتخابات رئاسية أو برلمانية محتملة.
وهنا يبرز السؤال البديهي: هل الانتخابات بطريقة الاقتراع السري وسيلة مناسبة وحقيقية وشفافة لقياس آراء الناس؟
منذ عقود، تحاول الدعاية الغربية الترويج لفكرة أن الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة لممارسة الديمقراطية، وأنها الآلية الأكثر نزاهة وشفافية للتعبير عن إرادة الشعوب. ويُقدَّم الاقتراع السري على أنه المشهد الأسمى للحرية السياسية: ورقة بيضاء يكتب عليها المواطن خياره، ثم يضعها في صندوق محكم الإغلاق، لتُفتح لاحقًا أمام لجان يُفترض أن تكون محايدة، ومن ثم تُفرز الأصوات وتُعلن النتائج وفقًا لما حصل عليه كل مرشح.
هذه الصورة المثالية تُسوَّق على أنها النموذج العالمي الذي يجب أن يتبعه الجميع، وقد سعى الغرب إلى فرضها بالقوة العسكرية أحيانًا، وبالضغوط الاقتصادية والسياسية أحيانًا أخرى. وبالطبع، فإن للغرب معايير مزدوجة في التعامل مع نتائجها.
لكن الواقع أكثر تعقيدًا من هذه الصورة المرسومة؛ فحتى الدول التي تُصنَّف على أنها الأكثر تقدمًا في المجال الديمقراطي تشهد انتخابات مليئة بالانتهاكات والتلاعب. الأمر لا يقتصر على دول العالم الثالث فقط، بل يصل حتى إلى أكبر وأعتى الديمقراطيات المعروفة. ومن الأمثلة ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية في انتخابات عام 2020، حيث تصاعد الجدل والاتهامات بالتزوير، وخرجت احتجاجات ومطالبات بإعادة الفرز والتحقيق. وكذلك ما جرى في الانتخابات الفرنسية لمنع حزب مارين لوبان من الفوز رغم شعبيته، وما واجهه “الحزب الحر” النمساوي في التسعينيات حين فاز بمنصب المستشار، فقوبل بمعارضة داخلية وخارجية شرسة.
عمليات التزوير التقليدية كانت تتمثل في تغيير بطاقات الناخبين أو إلغاء أصواتهم، أو إدخال بطاقات جديدة مُحضَّرة مسبقًا من جهات متورطة. غير أن التطور الأبرز في العقود الأخيرة هو دخول المال السياسي الفاسد والإعلام الموجَّه كسلاحين حاسمين في ساحة الانتخابات: المال يشتري الولاءات ويغيِّر مسار الحملات الانتخابية، بينما الإعلام يصوغ وعي الناس ويوجِّه اهتماماتهم بما يخدم فئة محددة على حساب المصلحة العامة، بل ويُقدِّم الفاسدين على أنهم مصلحون.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تفاقم ظاهرة العزوف عن المشاركة في الانتخابات حول العالم، حيث بات الناس يرون أنها لا تعكس إرادتهم الحقيقية، وأنها مجرد إجراء شكلي يمنح شرعية لنتائج مقررة مسبقًا. صارت المشاركة في نظرهم عبثًا بلا جدوى، إنها تعب جسدي ونفسي ينتهي بلا أثر على حياتهم أو مستقبل أوطانهم.
أما في ليبيا، فبعد نكبة 2011، روَّج الغرب لأوهام الحرية والديمقراطية والازدهار، لكنها لم تكن سوى ذرائع للتدخل العسكري وتدمير مؤسسات الدولة واستبدالها بكيانات هشة وفاشلة. اعتقد البعض أن تنظيم الانتخابات بالاقتراع السري سيكون مدخلًا لحل أزمات البلاد، ومع أول انتخابات في 2012 أُطلقت حملة إعلامية ضخمة صوَّرت العملية على أنها الخطوة الحاسمة نحو الاستقرار. لكن هذه التطلعات اصطدمت سريعًا بواقع مرير، إذ خشي من جاء بهم الغرب من فوز القوى الوطنية التي تمثل غالبية الشعب، فلجؤوا إلى قوانين وتشريعات إقصائية منعت شرائح واسعة من المشاركة ترشحًا وتصويتًا.
ولم يكتفوا بذلك، بل أقرُّوا قانونًا غريبًا سمح باستبدال أي فائز في أي وقت، بحيث إذا شغر مقعده، يحل محله تلقائيًّا المرشح التالي في عدد الأصوات، بغض النظر عن إرادة الناخبين. الأمر الذي فتح الباب لتبديل أعضاء المجلس المنتخب شكليًّا مرات عديدة، حتى أن أغلب أعضاء “مجلس الدولة” الحاليين لم يفوزوا أصلًا في الانتخابات.
وبما أن التسجيل المسبق شرط للاقتراع، فقد شُوهدت حملات دعائية مكثفة لزيادة أعداد الناخبين، في محاولة لإضفاء شرعية شكلية على العملية. غير أن القوى المسيطرة كانت كلما شعرت بأن فرصها في الفوز ضئيلة، لجأت إلى ما يسمى “الخيار الصفري”، أي تأجيل الانتخابات أو إلغاؤها بالكامل، كما حدث مع الانتخابات المقررة عام 2021، ومع العديد من انتخابات البلديات، حيث ألغيت النتائج في بعضها، أو لم تُجرَ الانتخابات أصلًا في أخرى.
وما نشهده اليوم في بعض البلديات من فساد مالي، وتزوير للأصوات، وأعمال عنف تصل إلى حرق مقار انتخابية، يؤكد أن الانتخابات، في ظل هذه الظروف، ليست العصا السحرية القادرة على حل الأزمات السياسية والاجتماعية.
إن التجربة، محليًّا وعالميًّا، تثبت أن الانتخابات لا تكفي وحدها لتحقيق الديمقراطية أو ضمان التغيير الإيجابي، ما لم تُبنَ على أسس حقيقية من الشفافية، والمنافسة النزيهة، والمشاركة الشعبية الواسعة، وما لم تُدعَم بإرادة سياسية صادقة تحترم نتائج الصناديق أيًّا كانت. والأهم أن تُوجد آلية تُبقي المنتخبين خاضعين دائمًا لإرادة ناخبيهم، لا فقط أثناء يوم التصويت. فالانتخابات بلا عدالة ليست سوى واجهة لسلطة تُدار من وراء الكواليس، تُستخدم فيها الشعارات البراقة لإخفاء واقع مختلف تمامًا عمَّا يُروَّج في العلن.