جامعة الكلام العربي

بقلم/ محمد علوش
هناك مؤسسة عربية عظيمة، تعقد تحت سقفها الاجتماعات الطارئة والعادية والطارئة جدًّا، اسمها الرسمي “جامعة الدول العربية”، لكن الناس يسمونها عن حب وود جامعة الكلام العربي.
في هذه الجامعة، يفتح الملف الفلسطيني كما يفتح كتاب التاريخ القديم، نفس السطر، ونفس الحبر، ونفس الغبار، نقرأ منه الجملة المقدسة: “نؤكد دعمنا الثابت لحقوق الشعب الفلسطيني”، ونضع تحتها خطًّا أحمر بكل وقار، ثم نغلق الملف بحذر، وكأننا نخشى أن تسقط منه أوراق سريَّة، وننتقل مباشرة إلى بند الشاي والقهوة، حيث تتحول حرارة النقاش إلى حرارة الفناجين.
وعندما يشتد العدوان على فلسطين، تتحرك الوفود العربية بسرعة البرق.. نحو صالات الفنادق الفخمة، حيث يفرش السجاد الأحمر وتعلَّق اللافتات الكبيرة التي تقول: “قمة طارئة”.
هناك، يجلس القادة والوزراء خلف أبواب مغلقة، ويصدرون بيانًا عاجلًا من ثلاث جمل: “نحن نتابع بقلق بالغ”، و”ندين بشدة”، و”نطالب المجتمع الدولي بالتحرك”، ثم تلتقط الصور الجماعية، بابتسامات مدروسة، قبل العودة إلى المطارات.
أما الدعم العملي، فهو يظل في منطقة الظِّل، بين لجان الدراسات ولجان الاقتراحات، حيث يذوب الوقت في اجتماعات فرعية لا تنتهي، وكما قال أحد الدبلوماسيين العرب، وهو يطفئ سيجارته بين فنجان قهوة وطبق كنافة: “نحن مع فلسطين قلبًا وقالبًا.. لكن لا نريد أن نغضب أحدًا”، ولم يحدد لنا من هو هذا “الأحد”، لكن يبدو أنه أكبر من الجغرافيا العربية، وربما أكبر من التاريخ العربي نفسه.
المضحك المبكي أن بعض الدول تتعامل مع القضية الفلسطينية كما نتعامل مع تحفة أثرية نادرة، نضعها في واجهة الصالون، ونغطيها بزجاج أنيق، ونقول للزائرين: “انظروا.. هذه فلسطين، قطعة فنية عمرها 75 عامًا”، ولا أحد يلمسها، ولا أحد يجرؤ على تحريكها من مكانها، فقط نتفاخر بامتلاكها في صمت.
أما الموقف العربي الموحد، فهو أسطورة من أساطير السياسة، كالعنقاء أو السندباد أو السيف المسحور، نتحدث عنه في الكتب المدرسية، ونغنيه في الأغاني الوطنية، ونراه يرفرف على شاشات التلفزيون في المناسبات، لكننا لم نصادفه يومًا يسير على الأرض، ولم نلمسه إلا في أحلام الخطباء.
وفي النهاية، تبقى فلسطين في “جامعة الكلام العربي” حاضرة في كل خطاب، وغائبة عن كل قرار.. حيَّة في بيانات الشجب، وميتة في غرف التنفيذ، كجملة محفوظة في ذاكرة العرب، لا يغيرها الزمن ولا يقترب منها الفعل.