مقالات الرأي

المداخلة الخامسة: في اللاهوت 5

بقلم/ أ.د. مهدي امبيرش

إن الأزمة التي واجهت آدم عليه السلام وزوجه سوف تواجه أبناءه من بعده، بل إن مناهج التفكير حتى اليوم، التي وقعت تحت تأثير ثنائية اللاهوت في القول بالسماء والأرض، حيث السماء هي موطن المقدس والإلهي والمجرّد من المادة والساكن الذي لا يتحرك، يقابله الدنيوي والمادي المتغير، وهذا أوجد أطروحة الصراع بين ضدّين. فإذا كان الأعلى والمفارق مقدسًا، فإن الأرضي والطبيعي والأدنى هو المدنس. وبداهةً فإن هذا الصراع لابد أن يكون مدمرًا، أي أنه لابد أن يبقى الوضع بموجودية سلطتين أو قوتين، حيث يقتضي الوضع أن ينتصر أحدهما على الآخر ويختفي المهزوم نهائيًا.

هذا التصور اللاهوتي كما ذكرنا يقتضي وجود الفراغ، ويكون من الضروري أن يوجد الوسيط الذي يملأ هذا الفراغ ويبعد شبح الصراع المدمر، أو على الأقل يخفف من حدته، إذ سيبقى كل واحد منهما سيدًا على مملكته. إن هذه الفكرة ستفرض أن يتصف هذا الوسيط بالصورتين معًا، أي أن يكون أعلاه مقدسًا أي يحمل صفات الإله المفارق، ويكون الأدنى فيه ماديًا، أي قادرًا على الحركة وقابلًا للتغير، وهنا نجده في الأساطير والخرافات نصفَ إله.

هذه الفكرة هي التي أوجدت في الميثولوجيا الإغريقية الوسيط هرمس. وحسب بعض المصادر، إن تحوت وزير آمون ومهمته هي التي أخذها الإغريق وجعلوا هرمس نظير تحوت، وما يؤكد معرفة الفلاسفة اليونانيين أن أفلاطون (الستوكليس) يذكر في محاورة فيديروس وفي مجاري الإعجاب به أنه كان يقوم بدور الوسيط بين الإله آمون والشعب.

وقد يتساءل البعض: لماذا أطرى أفلاطون على لسانه أستاذه سقراط فيديروس هذا ليجعله شاهدًا على موقف أفلاطون الأرستقراطي؟ حيث يقدم أفلاطون تحوت على أنه من اخترع الخط الرمزي، وأنه طلب الإذن من الإله آمون أن يعلّم الناس الرمز الخطي، إلا أن آمون، الإله، رفض هذا الاقتراح بحجة أن تعلم الناس الخط من شأنه أن يضعف الذاكرة. وربما نقرأ هذا الموقف قريبًا من موقف الطغاة والمتألهين الذين يحتكرون المعرفة وكل وسيلة لتعلم الناس وسائل وأسباب المعرفة.

هذا إلى أن الرمز الخطي له خاصية التجريد، أي أنه يجرد وسيلة التعبير الصوتي، ويكون بهذه الحال مقدسًا وإلهيًا. وهذه الفكرة قد نجدها في ما عُرف بالثورة الفرنسية، التي كانت تمردًا على الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تدّعي من منظور لاهوتي أنها الوسيط بين الرب الذي في السماء والشعب على الأرض. وكان الانقلاب في منهج التفكير تلك الصيحة التي قالت: إن الشعب صار إلهًا، ومن ثم صار الشعب تجسيدًا للإله الذي حلَّ فيه، وتم اختراع فكرة التصويت حيث يتنازل الإله الجديد الأرضي عن صفات الإله السماوي المفارق، فهو لا يتحدث اللغة المادية المجسدة بل يتحدث رمزًا من خلال أوراق الاقتراع، ويكون النواب بدور تحوت أو هرمس أي دور الوسيط الذي يحوّل لغة الإله الجديد الأرضي الرمزية إلى لغة متلفظة حسية في الكنيسة الجديدة (البرلمان).

وهنا نلاحظ أن مصطلح البرلمان من الفعل (parle) أي يتكلم أو يتحدث. فهذا الوسيط الجديد هو الذي له الحق أن يتكلم باسم هذا الرب الجديد على الأرض. وهنا تم التبشير بالأرضي مقابل السماوي حسب مصطلح (secularism) والذي تُرجم إلى العربية على أنه العلمانية، دون معرفة بهذه الخلفيات التي ذكرناها والتي جسدت صراعًا في منهج التفكير بين المدرسة التاريخانية الإيطالية–الألمانية (المثالية)، والنزعة المادية الفرنسية–الأنجلوأمريكية، والتي أعادتنا من جديد إلى خرافة اللاهوت القديم في ثنائية السماء والأرض أو الصراع بين ضدّين.

وتكون المحاولة التي قام بها المؤرخ القانوني الفرنسي صاحب كتاب أسباب سقوط روما وكتاب روح القوانين بأن أوجد فكرة الوسيط أو ما يسمى تقسيم السلطات، وتكون السلطة القضائية هي التي تقوم بمهمة تحوت أو مهمة هرمس أي التي تفصل بين الشعب الإله والجهاز التنفيذي في الدولة.

من هنا يتأكد ما نقر به من أن “العالم يتقلب ولم يتغير”. ولأن اللاهوت أو الثنائية (dualism)، والتي فرضت الوسيط، أو الثالوث (trinity)، سوف نقرأها بأمثلة كثيرة بالعودة إلى الصراع الذي تم في بلاد الإغريق بين الإغريق الطبيعيين الذين عاشوا في آسيا الصغرى، واليونانيين في أثينا التي يمثلها سقراط وأفلاطون، ثم يأتي أرسطو المقدوني ليلعب دور الوسيط.

للحديث بقية

زر الذهاب إلى الأعلى