مقالات الرأي

القبيلة وصانع القرار في ليبيا عمق الجذور وأفق الدولة

بقلم/ محمد بوخروبة

في صحراء ليبيا المترامية، حيث تختلط رمال الجغرافيا بعراقة التاريخ، لا يمكن أن تفهم السياسة، ولا تقرأ التحولات، دون الوقوف مليًا أمام عنصر اجتماعي متجذر، متماسك، ومتجدد التأثير ، القبيلة. إنها ليست مجرد بنية تقليدية عتيقة، بل هي ركيزة من ركائز البنية الاجتماعية والسياسية الليبية، وفاعل لا يغيب عن طاولة القرار، مهما تنوعت أنماط الحكم أو تبدلت المراحل ..

في ليبيا، تولَد السياسة من رحم الانتماء، وتصاغ التفاهمات غالبًا تحت خيمة القبيلة قبل أن تكتب في نصوص المؤسسات ، فكيف ساهمت القبيلة في تشكيل القرار؟ وكيف استطاعت أن تحتفظ برونقها ودورها، وسط عالم يزداد تجريدًا من الروابط التقليدية ..

منذ القدم، كانت القبيلة في ليبيا حجر الأساس في تنظيم حياة الناس، قبل أن تنشأ الدولة المركزية أو ترسم الحدود الحديثة ، كانت القبائل هي التي ترعى الأمن، وتضبط الأعراف، وتوزع الواجبات والمسؤوليات ، وكانت المرجعية التي يعود إليها الناس في الخصومات، والملاذ الذي يحتمي به الفرد في وجه الفوضى ..

وهذه البنية، رغم تقادم الزمن، لم تخب، بل وجدت في تطورات السياسة الليبية فرصة لإعادة صياغة أدوارها، وتجديد حضورها، ليس في شكلها الصدامي أو الانعزالي، بل في حضور ناعم وقوي في آن واحد، يشبه جذور النخلة في عمق الأرض، تستمد الحياة من مائها الباطن، لا من صخب السطح ..

مع قيام الدولة الليبية الحديثة في منتصف القرن العشرين، لم تلغَ القبيلة، ولم تقصَ، بل تم استيعابها في النسيج الوطني، أحيانًا بشكل مباشر، وأحيانًا ضمني، كمكون اجتماعي ضروري لاستقرار الحكم وتوطيد السلام الأهلي ..

وفي الفترة التي أعقبت تأسيس الدولة، وحتى خلال مرحلة التحولات العميقة في السبعينيات وما تلاها، بقيت القبيلة تؤدي دورًا وطنيًا بارزًا في ترسيخ الاستقرار، ليس فقط في بعدها الاجتماعي، بل كذلك في صناعة القرار، سواء عبر مشاركة أبنائها في أجهزة الدولة، أو عبر دورها غير الرسمي في تقريب وجهات النظر، وحل النزاعات المحلية ..

وإنصافًا للحقيقة، فإن فترة العقود الماضية وخاصة خلال حكم الزعيم الراحل معمر القذافي شهدت توظيفًا ذكيًا وإيجابيًا للبعد القبلي ، لم يكن ذلك من باب الهيمنة، بل ضمن صيغة توافقية أفسحت المجال للقبائل للمشاركة في بناء الدولة، والحفاظ على وحدة النسيج الوطني. فالمجالس القبلية، ومؤتمرات الشعب، وحتى الهياكل التنظيمية للدولة، كانت تعكس بقدر كبير التوازنات الاجتماعية التي تحترم دور القبيلة، وتحتضنها دون أن تصطدم بها ..

ان القبائل، خلال تلك المرحلة، ساهمت في استقرار مناطقها، وفي دعم المشاريع التنموية، وفي حماية السلم الأهلي، خاصة في المناطق النائية، حيث كانت القبيلة أحيانًا أقرب للمواطن من مؤسسات الدولة الرسمية ..

بعد التحولات العاصفة التي شهدتها ليبيا في عام 2011، ومع انحلال العديد من مؤسسات الدولة، واندلاع النزاعات المسلحة، برزت القبيلة مرة أخرى كحاضنة وطنية ومجتمعية، استطاعت أن تملأ الفراغ، وتعيد التوازن في العديد من المناطق ..

لم تكن القبيلة مجرد متفرج على الفوضى، بل لعبت دور الوسيط والضامن والراعي للعديد من المصالحات. ساهمت في حل نزاعات محلية، وفرضت هدنات بين الفصائل، ورفعت صوت الحكمة حين صمتت البنادق، وعجزت الأطر الرسمية عن المبادرة ..

لقد حافظت القبيلة على قدر كبير من التماسك، وكانت ولا تزال صمام أمان ضد التفتت المجتمعي، ومصدر شرعية محلية تحتَرم حتى من القوى المنافسة ..

ان صانع القرار في ليبيا، مهما علا شأنه، ومهما تدرج في المناصب، لا يستطيع أن يغفل عن البعد القبلي. بل في كثير من الأحيان، يستمد منه شرعيته، ويحتمي به حين تضيق الخيارات ..

فالقبيلة في ليبيا ليست فقط ناخبًا، بل ضامنًا. هي من تمنح الثقة، وتدافع عن ممثليها، وتفاوض باسمهم. وقد يكون القائد العسكري، أو الوزير، أو النائب، ممثلًا رسميًا للدولة، لكنه في عمق الوعي الشعبي، ينظر إليه باعتباره سفيرًا لقبيلته، حاملاً لتطلعاتها، ومعبرًا عن وجودها ..

وهذا لا يعد ضعفًا، بل هو جزء من طبيعة التكوين الليبي، الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الولاء للقبيلة والانتماء للوطن ..

إن التحدي الحقيقي الذي تواجهه ليبيا اليوم، ليس في وجود القبيلة، بل في كيفية إدماج هذا الكيان الاجتماعي التاريخي ضمن مشروع الدولة الحديثة، دون تذويبه أو تسييسه ..

لا بد أن تتقدم ليبيا نحو نموذج وطني يحتفي بالقبيلة كمكون أصيل، لا كخصم للدولة، بل كركيزة من ركائزها. فالدولة لا تبنى بالتجرد من الهويات، بل باحترامها، وتوحيدها ضمن رؤية جامعة للمواطنة ..

ويمكن للقبيلة أن تكون شريكًا فاعلًا في المصالحة الوطنية، وفي بناء مؤسسات الحكم، وفي إرساء دعائم السلم، متى ما تم احترام دورها، ووضع الإطار الذي ينظم العلاقة بين البعد القبلي والبعد المؤسسي ، ولذلك فإن القبيلة فى ليبيا ليست عائقًا، بل مصدر قوة اجتماعية وإنسانية لا يستهان بها. وإن صانع القرار الذي يتجاهل هذا المعطى، يخاطر بفقدان البوصلة ..

فالحكمة ليست في تجاوز القبيلة، بل في توجيه حضورها نحو خدمة الصالح العام، وفي الاستفادة من روابطها في لحظة تشظٍ وشتات. وحين تتصالح الدولة مع القبيلة، وتعيد ترتيب العلاقة على أسس احترام، لا وصاية، وتعاون، لا استغلال، يمكن لليبيا أن تمضي بثقة نحو بناء دولة مدنية حديثة، لا تتنكر لأصولها، ولا تتعثر في حاضرها.

زر الذهاب إلى الأعلى