تكوينات كرتونية ونخب في المجمدات!!

بقلم/ مصطفى الزائدي
رغم شدة المعاناة وتوالي الأزمات وعربدة الميليشيات وانسداد آفاق الحلول، يعتري المشهد الوطني حالة خمول شامل وواسع وتحول الحراك الوطني الرافض إلى أعمال بسيطة منعزلة تمثلت في خطابات إنشائية في وسائط التواصل الاجتماعي، وفي الصالونات والمرابيع ومجالس العزاء!
فهل السبب راجع إلى إجهاد القوى الوطنية بانهماكها في برامج غير مجدية، أم في نجاح الماكينة الإعلامية الميليشياوية في إلهاء القوى الفاعلة من الشباب والنخب الوطنية، وربما ترويضها وشرائها؟
بالطبع كلا السببين ينالان قسطا متساويا فيما يصيب المشروع الوطني، لكن السبب الأهم في نظري هو تعثر بناء تنظيمات وطنية تقود الحراك الشعبي الوطني للخروج من الأزمة لعدد من الأسباب في مقدمتها التركيز على الأشخاص في تأسيس المشاريع الوطنية بحيث تحولت كل التنظيمات التي تبنت شعارات وطنية إلى أدوات فردية تلاشت لمجرد اختفاء الأشخاص الذين بنيت حولهم، ولعل أبرز مثال مشروع تحالف القوى الوطنية الذي حاول المرحوم محمود جبريل بناءه حول شخصه بدون محتوى فكري ولا سياسي جدي!
أما الأحزاب الأخرى التي تعد بالعشرات وتدّعي حمل رسالة إنقاذ الوطن فهي مجرد عناوين حول أفراد رغم احترامنا لهم، يطلبون أدوارا عاجلة وفي المرحلة الانتقالية حتى وإن كانت محدودة وهامشية والمثل نجده بكل يسر في قائمة المترشحين عام 2021 للرئاسة وفي القوائم التي تتداول باستمرار لتشكيل الحكومات المؤقتة وفي أسماء أعضاء لجان الحوار وكذلك في أسماء من يتقربون من بعثة الأمم المتحدة وسفراء الدول النافذة والمراكز الدولية التي تدير من خلف ستار الشأن الليبي!
إضافة إلى أن جزءًا مهمًّا من تلك التنظيمات تأسس في الأصل بإرادة وإدارة الدول الأجنبية المتدخلة بهدف احتواء أي حراك شعبي مناهض لها.
الحقيقة أن حالة وعي الشعب الليبي بما يجري والمخاطر المحدقة بالوطن هي أعلى بكثير مما تطرحه النخب السياسية المؤطرة في تكوينات كرتونية.
أمَا السبب الآخر فهو نجاح القوى المسيطرة على مؤسسات الدولة في إجهاد وإنهاك الشعب من خلال الأزمات الاقتصادية المتواصلة وانهيار الخدمات وعجز الناس على تأمين سبل معيشتهم اليومية، الأمر الذي جعل الهم الوطني ثانويا أمام معاناة الناس، وبالطبع يعزز ذلك فشل النخب السياسية في تقديم برامج عمل توازن فيها التعامل بين الشأن الوطني العام والمشاكل الفردية المعقدة.
لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن ما يجري في بلادنا هو جزء يسير من مخطط واسع ينفذ في المنطقة كلها، يشمل إسقاط الأنظمة الوطنية المناهضة للصهيونية والاستعمار وإسكات النخب والسيطرة على الموارد وتفتيت الوطن وتشويه المشروع الحضاري للأمة، ومع ذاك فإن انشغال المخططين الكبار بأزمات سياسية واقتصادية أكثر أهمية لهم وأشد خطرا عليهم، تتيح لنا فرصة سانحة قد تكون محدودة القدر والزمن لأن نعمل على إخراج بلادنا من أزمتها الخطيرة، مدعومين بوحدة شعبنا ووعيه، وفساد وفشل الأدوات الليبية القائمة على تنفيذ المخطط في هذا الجزء من المنطقة.
الخطوة الأولى تبدأ بعودة النخب إلى قيادة الشارع عبر طرح مشروع وطني واضح ومحدد يتمحور حول آليات لتحرير الوطن من السطوة الأجنبية والنفوذ المعادي وتخليصه من عبث السفهاء وسلطة الفاسدين، ويطرح أساليب مقاومة جدية تطيح بالمؤامرة وتعيد الأمر للشعب.
الأهداف العامة وحدها لا تكفي، بل ينبغي بلورتها في أهداف محددة وتحويلها إلى برنامج عمل قابل للتنفيذ، وتقديمه للشعب الذي ينتظر المبادرين للتقدم إلى الأمام.
التعايش مع الأمر الواقع يعني فيما يعني زيادة حالة الإحباط لدى الجماهير وتغوّل سلطات الأمر الواقع واستهتارها بالناس، ويصير الوضع إلى دائرة مفرغة، حيث تتولد من الأزمة أزمات إلى أن تتلاشى رغبة الشعب في التغيير وتتحقق أهداف الأعداء ويصبح الوطن والشعب سطرا في أحد كتب التاريخ!
أتصور أن الناس تنتظر خروج صوت يدعوها إلى النهوض والخروج والثورة، ففيما يجرى من مسببات الثورات الكثير، ولن توجد صعوبة في تعبئة الجماهير، المطلوب هو فقط تبيان خطة عمل فعالة وتقديم صورة واقعية للمستقبل المنشود.
الخطاب السياسي المطلوب ينبغي أن يتركز على آفاق المستقبل ولا يتبعثر في وصف الحاضر المعلوم للجميع، ويجيب عن الأسئلة الجوهرية حول أي بلد نريد؟ كيف ننظر إلى المساواة والعدالة الاجتماعية بعد هذا التمايز الطبقي الذي بدأ يطفو على السطح؟، وكيف نرى مستقبل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية باعتبارهما حقا للناس ينبغي أن يحصلوا عليه بالتساوي؟ وكيف نتصور النظام الاقتصادي المناسب لليبيا؟ وما النظام السياسي الذي يمكن أن تدار بواسطته الدولة بكل عدالة وشفافية وتوازن؟ وكيف ننظر للمركز؟ وهل تحتاج دولة مثل ليبيا إلى عاصمة مركزية ونظام مركزي؟ وكيف يمكن تأسيس إدارات محلية تتمتع بالصلاحية في تسيير شؤون الناس دون الإخلال بالوحدة والسيادة الوطنية؟
ومن المهم أن يحوي الخطاب أفكارا عملية لتجاوز آثار الأزمة، وليس فقط معالجة الضرر والأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالناس، بل بطرح رؤى لمعالجة نتائج فشل التعليم طيلة الفترة الماضية، وتأخر البنية التحتية، والقضاء على الفساد الذي صار أساس التعامل في ليبيا، إضافة إلى تفشي آفة المخدرات والجريمة المنظمة!
هذا الصمت الناتج من وهم انتظار الحل من دوائر الأعداء أو عن تفاهمات المستفيدين والفاسدين نتائجه المؤكدة استمرار الحال على ما هو عليه!