إلغاء الإعدادية.. إصلاح أم مخاطرة؟

بقلم/ منيرة أحمد
في إطار الحديث عن تطوير منظومة التعليم العام في ليبيا، يُطرح هذه الأيام مقترحٌ يقضي بإلغاء الشهادة الإعدادية كمحطة دراسية تُختتم بامتحان مركزي على مستوى ليبيا، وتحويل هذه السنة الدراسية إلى مجرد مرحلة نقل عادية، يتم فيها تقييم التلميذ على أساس أدائه السنوي داخل الفصل، لا على امتحان مركزي موحد كما هو معمول به منذ عقود. ويأتي هذا المقترح، بحسب بعض الآراء، إلى تخفيف الأعباء النفسية على التلاميذ، وإعادة النظر في مفهوم التقييم الوطني، وخلق بيئة تعليمية أكثر توازنًا وتركيزًا على الفهم بدل الحفظ.
لكن هذا المقترح، رغم وجاهة بعض أسبابه، يثير نقاشًا واسعًا بين التربويين والمعلمين وأولياء الأمور. فالشهادة الإعدادية لطالما شكّلت محطة أساسية في المسار التعليمي، ليس فقط لأنها تحدد انتقال الطالب إلى المرحلة الثانوية، بل لأنها تُمثل تقييمًا وطنيًا شاملًا يتيح قياس جودة التعليم وتحصيل الطلبة في مختلف المناطق. إلغاؤها سيغيّر ملامح المنظومة برمتها، وقد تكون له آثار تربوية ومجتمعية أعمق مما يبدو على السطح.
من زاوية المؤيدين، فإن المقترح يحمل مبررات قوية. فالأوضاع التعليمية في ليبيا تعاني من اختلالات مزمنة، والامتحانات المركزية كثيرًا ما تتحوّل إلى عبء ثقيل على الطالب، خصوصًا في ظل ما يُسجّل من حالات تسريب، غش جماعي، أو ضعف في إجراءات الرقابة، ما يُفقد الامتحان مصداقيته. كما أن ثقافة الحفظ والتلقين المرتبطة بالشهادة الإعدادية تضرّ بالمنهج التربوي، وتؤخر الانتقال نحو تعليم تفاعلي حديث. لذلك، يرى هؤلاء أن إلغاء الامتحان الموحد واستبداله بتقييم سنوي داخل المدرسة، قد يكون مدخلًا لإصلاح أعمق، يعيد الاعتبار لدور المعلم ويمنح التلميذ بيئة تعليمية أقل توترًا.
غير أن هذا التفاؤل لا يخفي حجم التخوفات التي تُعبّر عنها قطاعات واسعة من الميدان التربوي. فالإلغاء، في حال لم يأتِ في إطار منظومة تقييم بديلة محكمة، سيُربك عملية الانتقال إلى المرحلة الثانوية، خاصة وأن ليبيا تفتقر حتى الآن إلى آليات فعالة في التقييم التراكمي، وإلى نظام إشرافي يضمن العدالة والانضباط بين مختلف المدارس والمناطق. فمَن يضمن أن تقويم أداء الطالب في فصل دراسي بمدرسة نائية سيكون بنفس الجدية والموضوعية كما في مدرسة نموذجية في العاصمة؟ ومن سيمنع تدخل العوامل الاجتماعية أو الجهوية في قرارات النجاح والرسوب دون وجود امتحان مركزي يُنهي الجدل؟
يضاف إلى ذلك أن غياب الشهادة الإعدادية قد يُضعف من قدرة الدولة على التخطيط التربوي، فهذه المحطة كانت تشكّل أداة وطنية لجمع البيانات وقراءة مستوى التحصيل العلمي، ومقارنة الأداء بين المناطق، وتحديد مكامن الخلل. كما أن بعض المسارات المهنية والفنية تتطلب شهادات رسمية موثقة، ما يطرح إشكاليات قانونية وإدارية في حال فُقدت هذه الوثيقة من التسلسل التعليمي. وهناك أيضًا بعدٌ خارجي لا يجب إغفاله، يتعلق بإمكانية اعتراف الدول الأخرى بالمؤهل الليبي، خاصة في الدول التي تعتمد على الشهادة الإعدادية كشرط لدخول المرحلة الثانوية.
وبين هذا وذاك، تتجه الأنظار نحو وزارة التربية والتعليم، التي يقع على عاتقها أن تشرح خلفيات المقترح، وتفتح باب الحوار مع أصحاب المصلحة في الميدان، بدل الاكتفاء بإجراءات فوقية قد تُفهم على أنها تبسيط مخلّ لا إصلاح حقيقي. فنجاح أي تغيير في السياسة التعليمية يجب أن يقوم على وضوح الرؤية، وضمان العدالة، والاستعداد المسبق، لا على الارتجال أو رد الفعل أمام اختلالات سابقة.
في المحصلة، إن تحويل السنة الإعدادية إلى مرحلة نقل قد يحمل وجوهًا إيجابية في إطار مشروع وطني متكامل، يشمل تحديث المناهج، وتدريب المعلمين، وإعادة هيكلة التقييم المدرسي بشكل منصف. لكنه، إن تم خارج هذا الإطار، فسيكون خطوة محفوفة بالمخاطر، وقد يؤسس لمزيد من الفوضى التربوية بدل تجاوزها. إن ليبيا اليوم بحاجة إلى إصلاح تربوي عميق، لا إلى إجراءات شكلية. وإنّ بناء أجيال قادرة على المساهمة في نهضة الوطن يبدأ من تعليم راسخ في مبادئه، عادل في تقييمه، ومتوازن في أدواته.