مقالات الرأي

من مرج سيدي إرحومة الأخلاق إلى مستنقع الخيانة: حكاية تفاوض في زمنين

بقلم/ محمود امجبر 

في 19 يونيو 1929، عُقد لقاء تاريخي في منطقة سيدي إرحومة قرب مدينة المرج، جمع بين شيخ الشهداء عمر المختار ووفده، وبين الحاكم العسكري الإيطالي الجديد بييترو بادوليو الذي تولّى منصبه في يناير من نفس العام. بادوليو جاء مبطّنًا برغبةٍ في السلام، لكنه كان يراوغ لكسب الوقت وتثبيت نفوذه، متذرّعًا بالحوار.

المارشال الإيطالي حضر اللقاء محاطًا بجنود مدججين بالأسلحة والمدرعات، في استعراض للقوة، بينما دخل عمر المختار ورفاقه بسلاحهم الشخصي الخفيف، تجردوا من مظاهر القوة وأحضروا الأخلاق والمبدأ. دار الحوار حول مطالب واضحة وصريحة: تعيين رئيس ليبي مسلم، عدم التخلي عن السلاح، فتح المدارس والتعليم واستخدام اللغة العربية لغة الدولة. وهي مطالب قوبلت بالرفض من المستعمر، فانتهت المفاوضات بالفشل، وقرّر الجميع أن ساحة المعركة أنسب من طاولة الحوار.

ورغم امتلاك المستعمر القدرة على الإيقاع بالقادة الحاضرين، رفض الغدر، متمسكًا بأعراف عسكرية ودينية، ما منح لحظة التفاوض هيبةً رغم الفشل.

أما الحاضر، فيكتب فصلًا مختلفًا من التفاوض:

في الأزمة الليبية الراهنة، ما يُسمّى تفاوضًا في العاصمة لا يحمل أخلاقًا ولا مشروعًا وطنّيًا. ميليشيات تتستر بالوطنية وتغدر باسمها، أطرافٌ تستغل الحوار لتصفية الخصوم، وتحول التفاوض إلى فخٍ يُنصب تحت مظلة الخيانة والتمثيل الكاذب.

لا احترام للأعراف، لا التزام بالمبدأ، بل سقوط حرّ في مستنقع الخديعة. أصبحت أدوات الحوار سيوفًا مغموسة في الغدر، وتسيدت منطق “اغتنم الفرصة للإقصاء” بدلًا من “افتح نافذة للحل”.

وبذلك، تغيّر جوهر التفاوض: من منصة للمصالحة إلى معركة خفية، يُجهز فيها على الوطن باسم مصلحة أطراف لا تمثل الدولة، ولا تعرف شرف المبدأ ولا أخلاق الطريق.

لقد مرت قرابة قرن منذ وقفة عمر المختار في سيدي إرحومة، يحمل سلاحًا خفيفًا، ولكن قلبًا مثقلًا بالمبادئ. واليوم، تتكرر اللقاءات، ولكن بلا عمر، بلا مبدأ، بلا أخلاق. وما بين من حمل السلاح دفاعًا عن القيم، ومن يحمل السلاح للغدر باسم الوطن، تتكسر أرواح الدولة على عتبة المصالح الضيقة.

إن إعادة الاعتبار للتفاوض الشريف لا تبدأ من غرف السلطة، بل من ضمير الشعوب. علينا أن نرفض ثقافة الغدر، ونستنكر من يقايض الوطن بالأحقاد، وأن نعيد كتابة عقدنا الوطني بالقيم التي دافع عنها المختار حتى الرمق الأخير.

زر الذهاب إلى الأعلى