حساب الخزانة الموحد (TSA) في ليبيا.. خطوة نحو الإصلاح أم قرار في بيئة غير مؤهلة؟

بقلم/ عثمان الدعيكي
أعلنت وزارة المالية بحكومة الوحدة الوطنية عن بدء تطبيق نظام حساب الخزانة الموحد (TSA) على بند المرتبات كمرحلة أولى، في خطوة تهدف إلى ضبط الإنفاق العام وتقليص الفوضى المالية المتفاقمة منذ سنوات. ويقوم النظام على تجميع الإيرادات في حساب مركزي واحد يُدار عادةً من خلال المصرف المركزي، بما يسمح بمتابعة التدفقات النقدية وتعزيز الشفافية والرقابة المالية.
في ظاهر الأمر، تبدو الخطوة إيجابية، خاصة في ظل واقع تتشابك فيه التحديات المالية والإدارية في البلاد، بينما تتعدد مراكز القرار المالي بفعل الانقسام السياسي. فضلًا عن غياب ميزانية موحدة، والعمل بترتيبات مالية بعيدًا عن قانون ينظم الميزانية العامة، فالدولة لا تزال تعتمد نمط إنفاق غير منضبط تغلب عليه عقلية التسيير اليومي، ما أضر بقيمة الدينار ورفع معدلات التضخم وأضعف الاستقرار الاقتصادي.
تطبيق TSA على بند المرتبات يمثل بداية تنظيمية ضرورية، بالنظر إلى أن هذا البند يستحوذ على أكثر من 55% من إجمالي الإنفاق العام. ومن شأن هذه الخطوة أن تساعد في كشف الازدواجية في المرتبات، وضبط قاعدة البيانات، ومعالجة حالات التضخم الوظيفي الوهمي. ويشمل هذا البند – وفق تصنيف المشرّع – كافة ما يتعلق بالوظيفة العامة من مرتبات أساسية وعلاوات وبدلات وإعاشة وحوافز، ما يعزز من فاعلية النظام في كشف أوجه التحايل والإنفاق غير المشروع تحت مسميات متعددة.
ومع ذلك، فإن قصر التطبيق على هذا البند فقط دون أن يشمل بقية أبواب الإنفاق كالدعم والتنمية والتحويلات والمشتريات العامة، يجعل منه إجراءً جزئيًا ذا أثر محدود. كما أن فاعلية النظام تظل رهينة بتطبيقه بشكل شامل دون استثناءات. ففلسفة TSA ترتكز على ضبط شامل للإنفاق ومنع ازدواجية الصرف، ولا تحتمل تخصيص مزايا أو استثناءات لجهات معينة، او توجيهه فقط لمؤسسات بذاتها كما يروّج البعض. إن أي محاولة لتحويره لخدمة أهداف ضيقة ستُفرغه من مضمونه وتُقوّض فرص الإصلاح.
تجارب دول مثل نيجيريا وغانا والهند أظهرت أن النجاح في تطبيق TSA لا يتحقق إلا عندما يُنفذ بشكل متكامل. في نيجيريا، أدى التطبيق إلى توفير أكثر من مليار دولار خلال عامين عبر إلغاء الحسابات الموازية. وفي الهند، ساعد على تقليص الحسابات الحكومية من أكثر من 150 ألفًا إلى أقل من 10 آلاف، ما حسّن كفاءة الرقابة وخفّض كلفة الاقتراض.
أما في ليبيا، فإن تعميم TSA على مختلف أوجه الإنفاق سيسهم في تقليص الفساد، وضبط النفقات، وتخفيض تكلفة المشروعات، بما يصل إلى 20% وفقًا لتقديرات البنك الدولي. كما أن تنظيم التدفقات النقدية يمكن أن ينعكس إيجابًا على سعر صرف الدينار الليبي من خلال تقليص الطلب على العملة الأجنبية وتحسين التنبؤ المالي.
لكن هذا التوجه يواجه تحديات حقيقية. فعلى المستوى التقني، لا تزال الأنظمة المالية للمصرف المركزي تفتقر إلى التكامل المطلوب لتتبع العمليات المالية في الوقت الفعلي. أنا على المستوى المؤسسي، فيعاني المصرف من ازدواجية القيادة وضعف التنسيق مع وزارة المالية، ما يضعف من فاعلية الرقابة ويؤخر الاستجابة.
ولتجاوز هذه التحديات، يجب توحيد البنية التقنية للمصرف المركزي من خلال منصة مركزية موحدة لإدارة الحسابات الحكومية، إلى جانب إصلاح هيكل الحوكمة داخل المصرف، وتفعيل آليات التنسيق مع وزارة المالية. فالمصرف يجب أن يتحول من مجرد جهة فنية إلى شريك استراتيجي في تنفيذ الإصلاح المالي.
رغم أهمية هذا التوجه، إلا أن نجاحه يبقى مرهونًا بالإرادة السياسية، وتوافر مؤسسات مالية موحدة، ونظام رقابي شفاف، والأهم من ذلك الالتزام بتطبيقه على جميع أبواب الإنفاق. فتنفيذ TSA في بيئة سياسية منقسمة، وسط غياب إطار قانوني واضح وضعف منظومة الرقابة، قد يحوله إلى مجرد إجراء شكلي.
والسؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه لم يعد: “هل نطبق نظام حساب الخزانة الموحد؟”، بل: “هل نملك البيئة والمؤسسات والإرادة الكافية لتطبيقه كما يجب؟”.